تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار .. وأغير من يللي يحبك يصون هواك أكثر مني!

آراء
الخميس 3-6-2010م
ياسين رفاعية

كنت في شبابي من هواة الاستماع إلى أم كلثوم، كان حفلها في الخامس من كل شهر في القاهرة، فيستمع إليها العالم العربي كله. وكانت إذاعتنا في دمشق تذيع الحفل في التاسعة صباحاً من اليوم التالي غير آبهة لحقوق النشر التي تمنع إذاعة أغنية قبل الحصول على موافقة صاحبها.

واليوم، تذيع إحدى المحطات التلفزيونية تسجيلاً لإحدى أغنيات أم كلثوم في العاشرة- الحادية عشرة ليلاً في التوقيت الحالي كل يوم، للأسف لم تتجاوز هذه التسجيلات التلفزيونية- السينمائية بضع حفلات ،قد لا تتجاوز العشر، مع إن أم كلثوم غنت على مدى ستين عاماً نحو خمسمئة أغنية باللهجة المصرية وبالشعر الفصيح، إذ لم يكن في ذلك الوقت ما هو معروف حالياً بالتسجيل السينمائي- التلفزيوني، فخسرنا متعة الاستماع إليها على شاشة التلفزيون.. ولكن الإذاعات العربية تعوضنا في التسجيلات الإذاعية، وبعض الهواة لديهم تسجيلات نادرة ليست موجودة عند أعرق الإذاعات العربية.‏‏‏‏

لم أتخل وأنا في سن الكهولة عن الاستماع إلى هذه الإمبراطورة حقاً وحقيقة والتي تربعت على عرش الغناء بتلك الوقفة الرائعة على خشبة المسرح، وبكل كبرياء الإمبراطورة مانحة البشر تلك الساعات الجميلة في الاستماع إلى أجمل صوت في العصر العربي الحديث- فأنا في كل ليلة أغلق نوافذ بيتي كلها حتى لا أسمع شيئاً من ضجيج الشارع، ثم أتهيأ لأسمع أرق الغناء والشعر والموسيقا لأساطين التأليف في الموسيقا والشعر.‏‏‏‏

على أنني، وبسبب مزاجي المتعكر هذه الأيام أذهب إلى ما لا يخطر ببال أحد، إذ أنظر إلى الجماهير المحتشدة التي جاءت بالمئات للاستماع إلى أم كلثوم ومعظم النساء فيها بملابس السهرة والرجال بهندامهم الرسمي، يستمعون إلى ذلك الصوت الساحر كأنهم في صلاة، فأسال نفسي كيف استطاعت تقنية الاختراعات أن تحفظ لنا هذا الصوت رغم أن صاحبته أصبحت رماداً وتراباً؟ وأسأل عن هؤلاء البشر أين هم الآن؟ لا شك أن معظمهم قد رحلوا عن الحياة وكانت أيامهم الأخيرة بائسة، مثل بؤس أي شيخ أصبح قاب قوسين أو أدنى من الرحيل.. هؤلاء الذين كانت السعادة تغمرهم بالاستماع إلى هذا الصوت، أين أصبحوا ومن بقي منهم؟‏‏‏‏

أولئك الصبايا الساحرات اللواتي كنّ يتمايلن مع سحر الأغنية، أي أغنية: «عودت عيني على رؤياك» أو «سيرة الحب» أو «الأطلال» أو ذلك «الدور» الشهير من ألحان سيد درويش: «حطيت على القلب إيدي، وأنا بودع حبيبي» أو مقطع «حفضل أحبك من غير ما قلك. عشان ما تحيرّ أفكاري» أو «حفضل أحبك من غير ما قلك، وأغير من يللي يحبك يصون هواك أكثر مني» قصائد في الحب والوفاء والأشواق والوداعات، كأن كل هذه الملايين «الدائخين» والمشدوهين في هذا الصوت، إنما تعبر عن حنينهم إلى الحب، وحنينهم إلى التواصل الروحي، إذ تعزف المطربة الكبيرة على وترهم الحساس، فيزدادون تأوهاً وأحياناً صراخاً بأن تعيد وتكرر ما غنت من هذا المقطع أو ذاك.‏‏‏‏

نعم.. نعم‏‏‏‏

أتساءل أين أصبح هؤلاء؟ أين طوتهم الأيام، وأغفلتهم الحياة لحظة الرحيل؟‏‏‏‏

أين تلك الأيدي التي كانت تصفق دون ملل وتنادي على امبراطورة الغناء أن تعيد وتعيد وتكرر؟‏‏‏‏

هل أصبح هؤلاء رميماً؟‏‏‏‏

هل أصبحت هؤلاء النسوة بما كن في نشوة الطرب..‏‏‏‏

هل أصبحن تراباً: «من التراب وإلى التراب نعود»؟‏‏‏‏

ذات يوم قال لي أبي رحمه الله: لا تبغ أيها العاقل حياة قليلة تغنى بحياة كثيرة تبقى، إن الدنيا ذهب يفنى ولا تظنن أن كل شيء يبقى على حاله، يا ابني سواد أيامنا أكثر بكثير من بياضها.. وكان مثلي محباً لطرب أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وفريد الأطرش.. ثم كان يقول لي: أين هم؟ أين جماهيرهم وحاضري وأفلامهم؟ ومثله كنت أتساءل أين كل هؤلاء؟ أين ذهب بهم القدر وأين تركهم؟.‏‏‏‏

ويذكر أن النبي العربي (ص) قال لأبي هريرة: ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قال: بلى يا رسول الله، فأخذه بيده وأتى به إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وخرق بالية وعظام البهائم فقال محمد صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاماً بلا جلد ثم هي صائرة عظماً رميماً وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت الرياح تصففها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكياً على الدنيا فليبك. قال أبو هريرة فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا.‏‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية