تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مآزق عطر الصابون

ملحق ثقافي
9/3/2010
قصة: علي ديبة:جلس متصدراً قاعة ضيوف المركز الثقافي، أضرم ناراً في رأس بورٍ أسمر ثخين، من تلك البواري التي تنتجها ماركة هافانا الشهيرة.

وضع مؤخرة ذلك السيجار تحت أضراسه وراح يمج ويزفر منها نفثات متتالية، حتى ظن كل من دخل القاعة أو وقف خارجها أن جراراً ثقيلاً يمرر مدخنته في سقف تلك القاعة. لم يفكر بضرر يحدثه، أو يكترث بما قد يقال عنه، وهو الذي حمل بعضه وجاء مصطحباً حقيبة تفيض بأوراق مليئة بالنظريات والبحوث والإرشادات والمواعظ..‏

ظل يمد بصره من وراء سحابات، ترتفع أكثر فأكثر كلما سمع أصوات أحذية نسائية قادمة تطقطق صاعدة بلاط الدرج..لا أحد يعلم ما كان يدور في خلده, أو أدرك عظمة احتلت تجاويف رأسه، كيف لا ؟ وهو الذي يجرّد التاريخ من ملابسه متى شاء, ويعري المجتمعات أمام نفسها كلما أراد، ويذر في العيون الشاخصة إليه كحلاً من صناعاته الفلسفية والاجتماعية بعد نقد لاذع لما جاء به أعلام اليونان والرومان والعرب، لاشيء مهم في نظره أو يصلح لطبخ ناضج يسد رمق الشعوب الجائعة، والعالم على رأيه إرث من متناقضات ذاتية لا يصح معها سوى التسليم بالواقع.. وتستطيع المرأة حسب توقعاته تحرير نفسها بنفسها من غير طبول تضر بمستقبلها أكثر مما تنفع..وما الثورات إلا وقود لانحراف القطارات عن سككها.. نبوءات تائهة يرميها هكذا أمام حيطانٍ من أملاح التسليم الجاهز.‏

توالت وفود من جمهور الأدب والفكر والثقافة، جماعات من الرجال وزرافات من النساء، منهم من بقي متريثاُ في البهو، وسواهم فضّل كرسياً يسترخي عليه، بعضهم منّى نفسه بامتلاك ثقافة لم يقبض على مثلها من قبل، وبعض كثير يسعى إلى امتلاك قبعة تضيف إلى سترته وربطة عنقه وتسريحة شعره ميزة مجانية لا ثمن لها..‏

لم يطفئ هذا المفكر سيجاره اللعين، خرج به إلى البهو، ليوزع نفثاته ضباباً ثقيلاً يعمي البصر، وربما تتلكأ البصائر وتتشتت، فلا تجد طريقاً للاحتجاج على ترهات يسعى إلى إقحامها وحشوها في بوابات السمع. لم يكترث بلفيف رجّالي راح يكيل له المدائح من كل صنف ولون، لم تظهر على ملامحه حمرة الخجل، ولم يتعِبْ لسانه بكلمات تدرأ عنه مذمة أنجبت مثلاً يقول: المديح في الوجه مذمة.. ولعله حرص على سيجار قد يفلت من بين أسنانه، فأطبق ناجذيه على ثلثه..‏

وجدت نفسي أخاطبه من غير مقدمات ، قلت له مازحاً وساخراً:‏

لا أظنك ستبتلعه مشتعلاً..‏

رماني بنظرة لا تشبه النظرات، اهتزت حقيبته بين يديه، خلته يتهيأ لانقضاض لم تعرفه الفئران من قطٍّ أقضَّ الجوع مضجعه، غير أنه ازدرد غضبه، أو هو أبقاه تحت أضراسه بصحبة ذلك السيجار.. ولعل تفكيره كان منصباً باتجاه حلقة من الصبايا الضيفات، ماذا يقلن؟ هل هن من المعجبات به؟ بحث عن نظرة تبيح له اقتراباً منهن، عن ابتسامة تشجيعية تلغي الحدود وتلتهم الفواصل والمسافات.. ترك خطواته تتسلل قاطعة نصف المسافة، ثم قطع النصف المتبقي بعد نظرة لا معنى لها تلقاها من إحداهن. مد يده مصافحاً، عرّف بنفسه دون تلكؤ أو انتظار:‏

أنا حمدي عطر الصابون ..الأستاذ المحاضر لهذه الأمسية.. محاضرتي اليوم لن تبقي ستراً على الرجل، سطوري رتبتها انتصاراً لمشكلات المرأة.. بصراحة أنا أسعى لصداقات واسعة مع شرائح مثقفة من النساء، صداقات تغني معلوماتي ، وإلا كيف أدافع عن حقوقها..؟‏

صدمة تلقاها عطر الصابون، صفعة دارت من وقعها شظايا أوهامه، ردٌ لم يتوقعه من رشيقة مال جذعها كغصن هزته أنسام البساتين، أدارت ظهرها ومضت غير آبهة ولا مكترثة بكل المشكلات الاجتماعية الموروثة والطارئة، تلك التي كان يعلكها مع طرف سيجاره. هنيهات مرّت صعبة، سيطرت عليه مشاعر غاضبة، شبّهَ صبيته المتنمرة بالنعامة، بالزرافة، تمتم لنفسه قائلاً: وردة صناعية من غير عطر.. فأجابه صوت نفسه ساخراً: هي كذلك لأنها شبيهة بالحصرم الذي رآه الثعلب في حلب.‏

حين اعتلى الأستاذ منبره صفق الحاضرون، هكذا هم، اعتادوا أن يصفقوا لكل من يصعد تلك الدرجات.. قبل شهور صعده مستخدم جديد لا بأس بهندامه، وكان حاملاً بيده حقيبة شاعر حدا ثوي كلفه بحملها، صفقوا له بشيء من الحماس، وكانوا لا يعلمون من أمره أمراً ..ابتسم ابتسامة بلهاء مليئة بالدهشة والاستغراب..استدرك مدير المركز الموقف قائلاً:‏

هو حسن بو خشبة، المستخدم الجديد في مركزنا الثقافي..أشكركم على ترحيبكم به كل هذا الترحيب..‏

تصفيق حاد جادت به أكف النسوة، فاض رأس عطر الصابون بما فيه، رفع رأسه أكثر من اللازم، تأمل في الصالة طويلاً، بدا كأنه يحصي عدد الرؤوس قبل بداية استعد لها، تحدث عن ثلاثين واجباً قل أربعين، رماها على كاهل الرجل، برأ ساحة الزوجات من واجبات لابدّ منها، أضاف إلى حقوقهن ثلاثين حقاً قل أربعين، وفي نهاية مطافه دعاهن إلى عصيان تصطلح معه أحوالهن..‏

امرأة ذكية جداً، أذكى من ثلاثين رجلاً قل أربعين، كانت تحتل المقعد الأخير في قائمة الكراسي، وقفت متضجرة، خاطبت المحاضر بلهجة لا تخلو من الغضب، قالت دون استئذان:‏

تكلمتَ كثيراً عن حرية المرأة، حتى ظننتُ أنها مقيدة، المرأة يا سيدي ليست مستعبدة، لكنها محكومة بظروف البيئة والأسرة.. كثيرون هم الرجال الذين يرفعون حرية المرأة راية، حتى إذا وقعت بين مخالبهم وأشبعوا منها غرائزهم، تنكروا لنعمة سعوا إليها حفاة عراة.. ابحثوا في جوانب إصلاح الرجال.. فتصطلح أحوال النساء..‏

كأن جميع الرؤوس استيقظت من سبات طويل، دوت القاعة بتصفيق ملأ فضاءها, تصفيق لم يحظَ بمثله الأستاذ عطر الصابون، ولا شاعر دأب على الصراخ نصف ساعة من الزمن، ولأن القصص لا تصل إلى خواتيم نهائية كما يتخيل البعض، فقد روى لي واحد من الذين لا يشبعون ولا يملون من حمل الكلام ونقله، أكد لي أن الأستاذ عطر الصابون، هو ولا أحد سواه، قال بعد عشاء دسم: المرأة كحبة الزيتون، لا تطيب إلا بعد الرّص ..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية