|
ملحق ثقافي بل إنها تنصب لَهُ شرَك التخبط في مأزق التصوُّر النقدي الذي يصنِّف الإبداع الأدبي للمرأة على أساس أنه ”كتابة نسائية“، وما ارتبط به هذا التصنيف من وصل إبداع الأخيرة بمصادرات غير أدبية، تغفل السمات الجمالية التي تزخر بها الكتابة التي تصدر عن النساء، وما تخوض فيه من قضايا الحياة والفكر والإبداع، التي هي قضايا الأدب، مما يؤهلها للاندراج ضمن الكتابة الأدبية شأن باقي المبدعين.
ويؤكِّد بناءُ ”نساء الريح“ المخصوص بسِمة التقطيع على الخاصية الأدبية للنص، فالمعمار يشِفُّ عن فنية راقية، تحتفي بالعالم الأدبي الذي أقامته الروائية على حبكة تمكن من التلاعب بالزمن عبر تقطيع حكاياتِه إلى لوحات مبعثرة بوعي، عمدت الروائية إلى لمِّ شتاتها بخيط سردي رفيع عند النهاية خالقة توازيا فاتنا بين التخطيط الهندسي وفن الحبك، بحيث يُعاد ترتيب قطع”البوزل Puzzle“. هكذا تكتمل الصورة الروائية التي تغيَّتها الساردة، صورة تعبِّر عن اختيار جمالي ذي صوغ لا يخلو من جدَّة وجرأةٍ يدلُّ عليهما العنوان ذاته قبل المتن. جاء في لسان العرب ضمن مادة روح]«يقال: الرِّيح لآِل فلان أَي النَّصْر والدَّوْلة... وكان لفلان ريحٌ... وتأتي بمعنى الغلبة والقوة.» ويبدو لي أن شيئاً من هذا المعنى يصل بين العنوان والمتن في انسجام بيِّن، فالعنوان تكثيف دال لعوالم الرواية، بمعنى أنه يختزلها ليومئ بالقليل إلى الكثير الذي تنطوي عليه، وهو أمر لن يخفى على القارئ النبيه في رواية ”نساء الريح“، التي تقوم النساء فيها بدور البطولة، نساءٌ يُراهِن على أصناف من المغامرات التي تتراوح بين الجنسية والوجودية والإبداعية، ويقفن في وجه محيط هش لا جذور لديهن فيه، ويصررن على التحرُّك في فضائه الممسوخ، والاستمرار في الوجود، بل وتحقيق الذات عبر مناورات ومبادرات ومغامرات تختلف من امرأة لأخرى، إنهن نساء ينتصرن بصيغ مختلفة، ولعل أكبر انتصار كان هو نجاح شخصية الكاتبة في أن تكتب نص”نساء الريح“، وليس نجاح ”بهيجة“ في العبور إلى إيطاليا، الذي نعلم منذ البدء إفلاحها في الوصول إليها، وفي بعث آلة التسجيل المعدنية التي تحوي سردها للوقائع. إذن، يحقق العنوان ما ينعت في النقد البلاغي بردِّ الأعجاز على الصدور، إذا فهمناه بنوع من التوسيع، باعتبارنا متن الرواية عجزا والعنوان صدرا.
ينبثق السرد الخيالي في ”نساء الريح“ من تقليد شبيه بما لجأ إليه روائيون كثيرون من ادعاء أن نصهم ليس سوى ترجمة لنص عثر عليه في لغة آخرى» دون كيخوته لثربانتيس، عزازيل ليوسف زيدان»، أو أنه مخطوط عُثر عليه»المخطوط القرمزي لأنطونيو غالا»، إلخ... لقد عمدت ”الكاتبة“ إلى التوسل بتقنية حديثة هي آلة التسجيل، التي أسندتها إلى بهيجة المغربية المغامرة لتوثق فيها شفهيا وقائع رحلتها السرية في اتجاه إيطاليا، وهو ما يمكن تأطيره بلاغيا ضمن مفهوم ”حُسن الاتباع“، الذي يحدث فيه ”أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيرُه فيحسن اتباعه فيه، بحيث يستحقه بوجه من وجوه الزيادات“، ومع ذلك، فالروائية لم تتحلَّل كلِّية من التقنية التقليدية المشار إليها أعلاه، فقد لجأت إلى التوسُّل بها، واستعملتها رافدا سرديا إضافياـ حين تسلَّمتْ من يُسرى وريقات كانت تدوِّن فيها خواطرها ومنها ”قرأتْ عليَّ أكثر من ورقة، وطلبت مني أن أستعين بها إذا قررتُ كتابة رواية عنها... تريد أن ترى قصة حبها التي لا تشبهها قصة أخرى مكتوبة في رواية.“ لكنها تعي بأن دورها كمبدعة هو إعادة ترتيب العالم، فالفوضى التي تطبعه والنقص الذي فيه يلزمان تنظيما وتكملةً، وهو ما أنجزته، لذلك يكونُ الالتفاتُ حين محاورتها لذاتها الكاتبة كشخصية رئيسة تحويرا لقولة هولدرلين الشهيرة ”ما تبقى يكمله الشعراء“، التي اتخذت عبارة” أما ما تبقى فدعي خيالَك يكمله ويملأ فراغاته.“ استعادة المكان لا مراء في أن الكتابة إنتاج تاريخي، يفلح كثيرا في إحداث تشابك بين التاريخ والفكر والفن. وفي حال ”نساء الريح“ يُلاحظ أن الحكي استهدف استحضار تعانق هذه الحقول أثناء كتابة سيرة لمدينة طرابلس، إذ” قِلَّةٌ هم من ذكر طرابلس بعبارة. هذه المدينة الرائعة المظلومة حتى من كتابها.“ تصير طرابلس في ”نساء الريح“ مكانا مستعادا، لأن الكتابة تنخرط في رهان إنقاذها من جحود ذويها وفي افتكاكها من النسيان، إن لم يكن تخليدها. إنَّ الفضاءات التي انتُشِلت فعلا، خُلِّدت بسلطة الكتابة ”كأن تلك الأماكن التي هدمت كانت مرصودة لتجري فيها أحداث هذه الرواية فقط، ثم تؤول إلى النسيان.“ ليست حكاية النساء، ولا حكاية كتابة رواية هي الحكاية الأساس في ”نساء الريح“، وإنما هي حكاية طرابلس باعتبارها مدينة مغبونة و”مدينة غامضة بسحرها، بهية.“ ولقد تكفَّلت الروائية بالدفاع عنها بسلاحها الخاص، الذي هو السرد الخيالي، فهذه المدينة الكوسموبوليتانية التي تنفتح على كل أشكال الثقافات، لم تعثر على رواية تحتفي بفضاءاتها، وتخلِّد لها صورة شأن مدن كثيرة فازت بروائيين شهيرين أسطروها، وجعلوا صورتها يصعب تمثُّلها على غير الصورة الأدبية التي رسمها لها مبدعوها، ولعل حال القاهرة مع نجيب محفوظ أفضل مثال.
سيرة الكتابة/سيرة البوح تتحوّل الكتابة في ”نساء الريح“ إلى مخاض تعيشه الكاتبة الموكول إليها رمزيا إخراج النص، تقول: ”ها أنذا أشرف على وضع جنيني.“ وتحرص الروائية أثناء الوضع على حضور الأدب، وعلى تسرُّبه ليملأ الكلَّ، وليُخْرِج النصَّ خلقا أدبيا، لأنها تبحث عن مجد لم تبْلُغه بعد. ويغدو التفريغ من الذاكرة المعدنية استعارةً دالَّة ”ذهبت إلى فراشي وأنا على يقين أن ما يشغلني هو إنجاز الكتابة أوَّلا، وليس أي شيء يتعلق بمسألة الإنجاب.“ الأهم، إذن، هو إنجاب نص رواية بمزايا سردية يمنحها صفة كاتبة حقيقية. إنه الحلم الذي يلازمها ”لطالما كنت أحلم بكتابة رواية“. جميع النساء يَبُحْنَ للكاتبة بطريقة مباشرة؛ عبر سرد وقائع من حياتهن لها، أو عبر واسطة؛ شَأَْنَ أم فرح العراقية التي تبوح لبهيجة، التي تنقل ذلك بدورها إلى الكاتبة. وتكون مهمةُ الأخيرة تجلية تلك القدرة السردية على توليد سجالات، ورسم مشاهد، وتفجير أحداث، أي بكلمة واحدة كتابة الرواية. تصبح الرواية-الكتابة سلطة؛ فكل شيء يلتقطه القلم، بعدَ أنْ تلمسه الحواس أو تدركه الذات يتحول إلى مادة للحكي، أي إلى سلطة لا تتردد الأخريات في الإقرار بجبروتها. تنتبه الكاتبة إلى ذلك حين تقول:” لم أفكر يوما أن الكتابة يمكنها منح الإنسان كل هذا الاحترام، وتحديدا المرأة.“ وتلجأ الكاتبة إلى تنويع سماتها البلاغية والجمالية إغناء للنص، ولعل الالتفات أبرز ما توسّلت به في انثيال سردها، وإتمام خلقها لشخصياتها ولعوالمهن الروائية، التي ليس ضروريا أن تكون حقيقية بالمعنى الحرفي، لكن ”حتى تكتبي الرواية عليك الاكتفاء بما عرفته عنهن جميعا، أما ما تبقى فدعي خيالَك يكمله ويملأ فراغاته.“إنها تجرِّد من ذاتها مخاطبةً، وتراوح كلامها بين الإخبار وضمير المتكلِّم، بحيث يغدو السرد متدفِّقا، يوفِّر المكونات الرئيسة من أحداث وأمكنة، أي المادة الأولى للحكي، ويأتي الخيال كقوة خلاقة، يصهر الكلَّ في كيمياء سردية، ويبني المتن الحكائي متمِّما الناقص، ومشذِّبا ومنقحا الجاهز قبل لحظة الوضع. وتصْدُر الكتابة لدى الكاتبة أيضا عن استجابة داخلية، وليس عن رضوخ لشرط غير أدبي، فالكاتبة على نقيض بشرى التي تتوسَّل بالكتابة للتلصص، أو التسلل إلى عالم الكاتبة؛ أي عالم الآخريات، لديها مشروع إبداعي يتمثل في كتابة رواية، وقد اجتهدت في البحث عن مسوِّغ لإخراجه، فكان اللجوء إلى احتمالات استعرضَتْها في قولها ”لم أكن أتوقع العثور على حكاية، كنت أبحث عنها داخل تجربتي، أحث ذاكرتي على المضي نحو الماضي أو حتى القريب من الحاضر، معتقدة أن ذاكرتي سوف تعتقل نصا ما يفجر تلك الرواية“. إنها لا تكتفي بكل هذا، بل تضع بين يدي القارئ تقنياتها في الكتابة ”أعتمد التدوين مباشرة، هذا ما خطر لي عندما ألحَّت يسرى على كتابة روايتها“. الواقع أن رزان نعيم المغربي في روايتها ”نساء الريح“ جعلت الرواية تفكِّر في ذاتها من داخل الرواية، أي أنها لجأت إلى إنتاج خطاب حول الرواية ضمن متن الرواية، أو ما يُعرف بالميتارواية، وهي بذلك، تذكِّرنا بما لجأ إليه كبار الروائيين العالميين أمثال: ساراماغو، وكونديرا، وكالفينو، وأوستير، الذين جعلوا الرواية أثناء انكتابها شخصيةً لا تقل دورا وفاعلية عن باقي الشخصيات والأحداث. |
|