|
ملحق ثقافي وهو الأمر الذي يقلقني كقارئ، ويفقدني الكثير من شغف القراءة ومتعتها، أي أن يقرأ المرء عملاً أدبياً لم يكتمل.. ويحتاج إلى مزيد من التنقيح والتدقيق.. وتصورت أنني لن أكمل قراءة الرواية لهذا السبب.
لكنني ما لبثت أن «غرقت» في أجواء الرواية: عالم جديد إلى حد بعيد على الثقافة العربية، فنحن ـ عرب القرن العشرين ـ تنازعتنا ثقافتان أساسيتان: ثقافة أوروبا الغربية أولاً، وثقافة السوفييت والمعسكر الاشتراكي ثانياً. وفي مرحلة لاحقة دخل أدب أميركا اللاتينية، خصوصاً الرواية منه، إلى عالمنا. أما الثقافات الآسيوية، الهندية واليابانية والباكستانية والأفغانية.. وغيرها، فقد كنا بعيدين عنها إلى حد كبير. وأعتقد أن النجاح الذي لقيه الحسيني في الغرب، حيث كتب «قائد الطائرة الورقية» باللغة الإنكليزية، وطبع منها مئة وأربعين مليون نسخة، هو الأمر الذي أضاء على أعماله الأدبية عالمياً.. ومع ذلك مازالت أعمال الحسيني، وغيره الكثير من كتاب آسيا ومبدعيها طي النسيان العربي، رغم أن مواضيعهم تتشابه كثيراً مع مواضيعنا ومع ما يقض مضاجع العرب والمسلمين على وجه العموم، في عصر يحاولون اللحاق بركبه، والنهوض بثقافاتهم ومهماتهم في بناء الدولة الوطنية، خصوصاً مع انتشار الإسلاموفوبيا، بعد أحداث 11 أيلول، في الولايات المتحدة الأميركية. في الحقيقة، لم أستطع الابتعاد عن «المخطوط» حتى انتهيت من قراءته.. والأهم أنني اعتدت أن أصحح بعض الأخطاء الإملائية والنحوية، التي تمر معي وأنا أقرأ أية مادة.. لكنني مع «قائد الطائرة الورقية» توقفت عن ذلك، لأن الرواية تمسك بتلابيب المرء ولا فكاك له منها، إلا بعد الانتهاء من قراءتها. «رواية تستدعي الصور، الأحاسيس والذكريات، حادة وصادقة.
من أعظم نقاط القوة في قائد الطائرة الورقية هي التصوير العاطفي للأفغان والحضارة الأفغانية. حسيني كتب بدفء وأهلية عن أفغانستان وأهلها يحسد عليها. رواية تبقى في الذاكرة، تشدك لقراءتها وتضمك داخلها بسرديتها الوصفية المذهلة»• تتميز الرواية بلغة سرد تحاكي لغة عمالقة الرواية في العالم، ماركيز، همنغواي، ماريو بارغاس يوسا، ألبير كامو، مورافيا.. وتقترب من لغة عبد الرحمن منيف وحيدر حيدر في العالم الروائي العربي. عالم غني بالمفردات والصور، وتنبعث منه موسيقا المكان والزمان.. تجعل القارئ يعيش بساطة الأفغاني وأحزانه، ويحلق معه في أحلامه الصغيرة. وفي معرض قراءته للرواية، كتب رئيس قسم الآداب في صحيفة دينفر بوست الأميركية ما يلي: «رواية جميلة.... من أفضل ما كتب، إحدى الروايات التي تهز مشاعرك. قصة صداقة لا يمكن لها الاستمرار، بلاغة غير اعتيادية تروي قصة العلاقة الهشة بين الآباء والأبناء، الإنسان وآلهته، رجال وبلادهم. كل هذه العلاقات رابطها هو الإخلاص والدم ممزوجة في واحدة من أكثر القصص غنائية وتحريكاً للمشاعر، مما يجعلها واحدة من الروايات التي لم تكن متوقعة هذه السنة»••. تؤرخ الرواية بالمعنى الأدبي لفترات ثلاث في حياة أفغانستان: قبل الغزو السوفييتي، وأثنائه، وهزيمته فيما بعد على يد الطالبان الذين حكموا الأفغان بـ «الشريعة الإسلامية» كما فهموها. تبدو كابول قبل الغزو السوفييتي، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مدينة إسلامية متسامحة، تحمل الكثير من ممكنات التطور والتحديث، إضافة إلى أزماتها مع التخلف والفقر وظل من الاستبداد وأجهزة الأمن. مع «ميزة» أفغانستان المختصرة بالمثل الأفغاني الذي يقول: إن الله حين خلق الكون، ووزع نعمه ونقمه، في أنحاء المعمورة، جعل حصة الأفغان، جزءاً من كل نقمة وزعها على العالمين.. ليس إلا!!
ويبدو هذا المثل قريباً من الواقع إذا أخذنا العقود الثلاثة الأخيرة معياراً لذلك: فالاحتلال السوفييتي أولاً وهمجية مفاهيم «الحرب الباردة» حين يدفع ثمنها فقراء العالم، الأفغانيون أو سواهم، ثم سلطة الطالبان القبيحة، وتطبيق «الشريعة» كما يراها دعاة السياسة وتجارها، ولا يدفع ثمن ذلك إلا المتنورون والفقراء أيضاً، وأخيراً الاحتلال الأميركي بكل دمويته وعنجهية «الحضارة» المعدنية وغباء أسلحته «الذكية» التي دمرّت البلاد وشرّدت العباد، شأنها في ذلك، شأن الشعب العراقي. الرواية تروي مرحلة من تاريخ الأفغان الحديث من خلال علاقة صداقة جمعت بين أمير وحسان، طفلان أحدهما ابن «المالك» والآخر ابن «الخادم».. أمير، الطفل الحساس، غير المستقر، الذي يهرب من خشونة الحياة إلى كتابة القصص. وحسان المغمور بكل ما في الحياة من صخب وهدوء، ومن أفراح بسيطة وتعاسة تقترب من كل ما في الواقع من قبح وصعوبة وتحديات. إضافة إلى شخصية والد أمير، الارستقراطي النبيل، الملتزم بأفغانه الحبيبة، التي قدّم لها كل ما يملك ضد «الغرباء».. جميع الغرباء، بما فيهم الطالبان، الذين اعتبرهم جزءاً من مشروع غريب عن أفغانستان/ الدولة والتاريخ والشعب. جميع شخصيات خالد الحسيني تبتعد عن «النمطية».. لا تعرف روايته الأبيض، وكذلك لا تعرف الأسود.. بالمعنى المجازي، ترى الحياة بكامل تنوعها وحقيقيتها، دون أدنى محاولة من الكاتب، لتزيين شيء ما أو تسخيف شيء آخر، فهناك الحب والإخلاص والشجاعة والتضحية والكراهية والغدر والجبن والاستغلال.. شأن الحياة. فجميعنا كبشر نحمل هذه المفردات بنسب معينة!! بساطة الحياة الأفغانية وهشاشتها في آن، ترمز لها الطائرات الورقية في سماء كابول، التي يطيّرها أمير وحسن، وكأنها تعبير عن علاقتهما أيضاً. كثيرة هي مشاهد الرواية التي تحفر في الذاكرة.. لتبقى: تعرّض حسان للاغتصاب وفاءً منه لأمير، رجل يدفعه يأسه وفقره إلى بيع رجله الاصطناعية في السوق السوداء لإطعام أطفاله، والد أمير الذي يتحدى أحد الجنود الروس دفاعاً عن امرأة أفغانية أراد الروسي معاشرتها عنوة، رجل وامرأة يرجمان حتى الموت في ملعب كرة القدم خلال الاستراحة بين الشوطين للمباراة، صبي صغير وسيم يجبر على ممارسة الدعارة، وتقليد حركات قرد يرقص معه عارياً.. وهي المشاهد التي حفل بها الفيلم السينمائي المأخوذ عن «قائد الطائرة الورقية»، وحمل العنوان نفسه، فيلم لم يقل جاذبية عن الرواية نفسها، وإن كانت جاذبيته تنبع، إلى جانب قصته، من لغة الكاميرا نفسها، والأداء الأخاذ لأبطاله، خصوصاً أمير وحسن.. والفيلم يحتاج إلى وقفة أخرى. وربما من أهم الشهادات العالمية حول قائد الطائرة الورقية ما كتبته الروائية التشيلية «إيزابيل الليندي»، وكأنها اختصرت الشعور الذي ينتاب المرء بعد الانتهاء من قراءة الرواية حيث قالت: «كل المواضيع الهامة في الحياة هي التركيبة لهذه الرواية الاستثنائية: الحب، الشرف، الذنب، الخوف، التوبة. هذه الرواية من القوة حتى أنه لوقت طويل كل شيء قرأته بدا سطحياً». هوامش •عن الناقد الأدبي في الموقع العالمي الشهير «منبر شيكاغو» ـ Major Themes ـ April9/ 2005 •• عن صحيفة دينفر بوست ـ بقلم Erika Milvy ـ 5/7/2004 ••• عن صحيفة اللوموند ـ بقلم إيزابيل الليندي ـ 3/2/ 2005 |
|