تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جيل بعبع

معاً على الطريق
الخميس 4/9/2008
< عبد النبي حجازي

كنت على أطراف حارتنا القديمة فطرقت أذنيّ (آه) نسائيّة مجروحة مديدة وإذا بها (أم عباس) تشدّ قبضتيها منحنية وتغني هذا المقطع من بيت العتابا:

(ياهمي مايشيلك ثور عمّال/ياجرح البلقلب دوّد وعمّل).‏

وعندما رأيت العجائزحولها يهونَّ عليها مردِّدات )يالطيف هذا جيل بعبع يأكل ولايشبع, يخرج ولايرجع, تحاكيه ولايسمع( عرفت أنها حلقة شجار جديدة مع وحيدها (عباس) ومن حيث لا أشعر عادت بي الذاكرة إلى مطلع الستينيات عندما قبضتُ أول راتب من أول وظيفة استلمتها. ذهبتُ إلى (كراج جيرود) لأرسل لأبي نصف راتبي وصلت والركاب ينتظرون (البوسطة) ففوجئتُ بأحد أصدقائه (أبو محمود) بين المنتظرين.‏

أقبلتُ نحوه معتدّاً وأخرجتُ من جيبي (أم المئة) تلتمع كضوء البدر )أرجوك أعطها للوالد كم أنا سعيد بوجودك( فردَّها قائلاً:‏

- تكون أسعد لو سلمتَها له بيدك.‏

- لكنني لا أستطيع الذهاب إلا يوم الخميس.‏

قال مستخفاً:‏

- الخميس بعد يومين ولن تقوم القيامة خلِّها معك.‏

ثم انتحى بي جانباً وقال:‏

- اسمع يا ابني: إن كل مافي الدنيا من أموال لا يساوي عند والدك إطلالتك عليه, إنه الأب يا ابني أغلى هدية تقدمها إليه هي أن يراك أمام عينيه تتدفق حيوية وشباباً, وأن تحدثه عن حياتك اليومية وطموحاتك فيشعر أنك استمرار له وينسى أمراض الشيخوخة وتعب السنين وقرب الأجل المحتوم, واعلم أنه مامن رجل في الدنيا يريد أن يرى أحداً خيراً منه إلا ابنه.‏

وددتُ لو أقول لأبي محمود: أنا الآخر تسعدني رؤية أبي وأمي وأحدثهما عن ظروف عملي وعلاقاتي مع زملائي وأطلب من أمي أن ترشدني عن أكلات أحبها, وأبوح لها عن فتاة جميلة أعجبت بها.. وددت لو يعرف أبو محمود أن هذه (المئة) هي أكثر من نصف راتبي, وأنني بما تبقى أدفع أجرة غرفة, وقسط الجامعة, وثمن كتب ومراجع, وأجور مواصلات, وشراء ثياب, لكنني أحسست بالخزي لما تذكرت أبيات الحطيئة:‏

وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل/ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما‏

أخي جفوة فيه من الأنس وحشة/يرى البؤس فيها من شراسته نعمى‏

وأفرد في شعب عجوزاً إزاءها/ثلاثة أشباح تخالُهم بهما‏

رأى شبحاً وسط الظلام فراعه/فلما رأى ضيفاً تشمّر واهتما‏

فقال: هيا رباه ضيف ولاقِرى/بحقك لاتحرمه تالليلة اللحما‏

فقال ابنه لما رآه بحيرة أيا أبت أذبحني ويسر له طعما‏

فروى قليلاً ثم أحجم برهة‏

وان هو لم يذبح فتاه فقد همّا‏

وتذكرت النبيّ إبراهيم الخليل الذي استسلم له ابنه اسماعيل ليذبحه, وعندما بدأت (البوسطة) تتحرك و ( أبو محمود) يلوِّح لي بيده مودِّعاً تمنيت أن أقفز إليها من النافذة لولا أنني لن أجد وسيلة مواصلات إلى دمشق صباح الغد لألتحق بعملي في الوقت المناسب (الخميس لابأس لن تقوم القيامة).‏

anhijazi @ Gmail. com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية