|
رؤية كنتُ جالساً في باحة بيت دمشقي عتيق بين رجال متجهمين لم يتكلفوا إخفاء ضجرهم, ونساء متأنقات اعتدن ملاحقة الأمسيات الأدبية كنوع من اللياقة الاجتماعية.. ولن أنسى مافعله ذلك الرجل ذو الشعر الأبيض عندما خرج من بيننا فجأة وجلس قبالتنا, وبطقوسِ ساحرٍ نحّى (غليونه) وداعب نظارته وفرد أوراقه.. لقد حولتنا كلمات عادل محمود في تلك الأمسية الى مجموعة من الأرواح المسحورة,والنفوس الجذلة النقية والهشة.. ومازلت اذكر بحنين تلك المرأة الأربعينية التي هرعت الى الخارج باكية ,دون أن تتيح لي التأكد من صحة إحساسي: لم تخرج خجلاً من عينيها المليئتين بالدموع, بل فرت من وطأة شعور طاغ بالندم..!! أجل ففي لحظات نادرة من حياتنا يتكثف فيها حضورٌ روحاني ما على هيئة شعر أو موسيقا..لحظات نكون فيها أمام نوع من الكشف المباغت والآسر, فإن أول ماينتابنا هو الشعور بالندم..ندم على حيواتنا الخاوية, ومساراتنا الخاطئة..على هذا الابتذال الذي يلفنا..على حماقاتنا وقسوتنا وسوء فهمنا المزمن.. في تلك الليلة-وكما يفعل الشعر الحقيقي غالباً- تحولت كلمات عادل محمود الى تيار أثيري سبحنا عبره الى ذكرياتنا القصية, الى الطعوم الأولى للأشياء..إلى أحلامنا المبكرة التي نذرنا لها أنفسنا, ووعودنا التي قطعناها ثم تواطأنا على نسيانها.. وإذ خرجتُ اخيراً من جلسة السحر تلك, فقد أيقنت انني أصبت بإدمان لاشفاء منه على كلمات هذا الشاعر, ليس فقط تلك الكلمات المرصوفة بأناقة في مجموعاته الشعرية بل ايضاً تلك الكلمات الدامية في زواياه الصحفية, والتي جعلتني أواظب على شراء مجلة لاأصدق منها حرفاً واحداً.. فقط كي أصل إلى الركن السري الذي يفجر فيه محمود الشعر من أكثر التفاصيل يوميةً وابتذالاً.. ولأنه (يعيش الحياة شعراً) متماهياً مع مايكتبه الى أبعد الحدود, فهو يصر على عزلته الطوعية النبيلة.. عادل محمود- وكما وصفه أحد أصدقائه-رجلٌ يقطر شعراً. |
|