|
ثقافة
يحرقنا كلّ سهمٍ منها بسرعة الضوء.. تُذهلنا المسافة وتجرفنا الحماسة.. يجذبنا البريق إلى الأثرِ الذي نتبعه.. نتأمل السماء، نشعر بحرارتها، ونغادر الدفء الذي فيه ولدنا..» هذا ما أرادت الكاتبة الفرنسية «شانتال شواف» أن تقوله بصوتِ «رواد العتمة». أولئك الذين زادهم «المنبت المزوَّر» ضياعاً عاشته بطلتا روايتها.. «ليز» الفرنسية.. الطفلة في وسطٍ مغيَّبٍ بفعل تداعيات الهوية.. الشابة التي قرَّرت وبعد موت والديها اللذين تبنَّياها، قطع علاقتها بعالمٍ رأته يرتكز على قوانين فوضوية. المرأة التي هجرها زوجها التركي بعد أقل من عامٍ، تاركاً إياها تتخبَّط في المعاناة والوحدة والآلام. الأخرى «يشار» ابنة زوجها.. الحفيدة التي حملت إرثَ سلالات كاملة من كآبة جداتها المقهورات.. المراهقة الجامحة واليائسة.. المهزومة والمتأذِّية والمعقدة والمهملة.. العنيفة والمتمرِّدة بطريقةٍ، لم تكن قسوة والدها الذي كان أسوأ من الحرب بالنسبة إليها وحدها سببها، بل أيضاً أصولها الشرقية التي جعلتها في حالة صراعٍ بين حضارتين متنافستين دينياً واجتماعياً. الأولى أسيرة المحرمات، والثانية ترفضها وتحتكرُ الحياة.. من هنا، عاشتا معاً.. عسكرتا «خلف متاريس المعركة لأجل الحياة».. لأجل «العودة إلى الأصل» حيث «المنشأ» و»الرحم الإسفنجي الأول». لأجلِ الخلاصِ من حياةٍ مُختَلَسة ومتقوقعة في العزلة والوحدة، وفي ضاحية قريبة من بحيرةٍ أعادت «ليز» التي تآلفت مع أصوات برمائياتها، إلى «أنشودة الطبيعة في الوفاءِ الذي كان قد هجرَ الحياة وكائناتها».. الطبيعة التي علّمتها اختزال لغتها، وقادتها إلى أعماقِ ذاكرةٍ وصفتها: «قادتني الطبيعة إلى أعماق الذاكرة المائية.. إلى الحياة على الأرض، وميراث الغرائز الحيوية.. إلى التحوُّل والتقمُّص وأسطورة الولادة، مثلما أوهام البعثِ والخلود وغموضِ الفكر البشري.. إلى الألحان التي تعود لأجدادنا الأوائل من غير البشر، وإلى ما في أعماق الزمن من صرخاتٍ التقطتها وعدت بها إلى حاضرِ الأصوات النكرة، لأنشرها رسالة حبٍّ للإنسانية التي استعاضت عن تلك الأصوات بأحاديثنا التي بلا ذاكرة..» هكذا كانت الحياة بالنسبة لامرأتين مخذولتين من المجتمع ومتسولتين للعواطف.. هكذا كانت في ضاحيةٍ مخصَّصة للمهاجرين الهاربين من الخريطة.. الضاحية التي تقاسمتا فيها سوء الحظ والوحدة والألم والحرمان والحجز.. الجوع للهواء النقي.. الفضاء المشتهى، ورذاذ المطر والتهام الضوء والمرارة والجنون الشقي. باختصار.. الرواية عودة إلى ما في الإرث التاريخي من جراحِ نساءٍ مقهورات ومقموعات، سعت «شواف» لتحريرهنَّ من قيودهنَّ، والدفاع عنهنَّ كما عن كلِّ ضحايا العالم.. هي أيضاً، دعوة للتطهّر من تقاليدٍ فسدت عبر الزمن ولاتزال تطالب الحاضر بالحساب.. التقاليد التي جعلت الحياة نفسها مجنونة ومتوحشة.. حياة كلّ من تلاعبت بهم الأقدار فانتهوا كما «ليز» و»يشار». الفتاة التي أصيبت باضطراباتٍ في الشخصية بسبب ماعانته من الإهمال والتهميش والقسوة وإقصاء الذات.. تلك التي لابدَّ في النهاية من أن تخرجها الشَّمس من عتمتها، جاعلة الضوءُ يسطع من كلماتها: «الزمنُ لا ينسى، هو منقولٌ إلينا من أمهاتنا.. من جداتنا.. من خلايا البويضة التي تستمر حتى الموت وتمتد في الذرِّية.. سوف تعود الحياة لتلقانا من جديد، وبإزالة السموم، وعودة الأحاسيس، واستعادة الوعي.. شكراً للشَّمس.. شكراً لأجلنا..».. نختم بالقول: «شانتال شواف» كاتبة فرنسية الجنسية، عربية الهوية. ذلك أن والدها جزائري، ووالدتها فرنسية. عاشت في الجزائر لكنها عادت إلى باريس بعد رحيل والديها المبكر.. درست الآداب الكلاسيكية وتاريخ الفنون.. بدأت بكتابة ما سمِّي بالأسلوب الأنثوي، ولُقِّبت بكاتبة العودة إلى الولادة، ولقد عبرت عن الحياة وضرورتها في فترة قُلبت فيها العديد من المفاهيم والتوقعات المستقبلية. قدمت وإلى جانب أعمالها الروائية، العديد من المؤلفات والدراسات المسرحية والأدبية. من رواياتها «المذبح» و»القلب المذموم» و»بذور القمح» و»احمرار» و»غروبيات» وغيرهم.. |
|