|
ثقافة
يرى أننا سنشهد قيامة بابل جديدة في هذا الزمن حيث تختلط الألسن والوجوه والأعراق والجنسيات والميول مرة جديدة، ويكون هولاً، لا يترك مجالاً لأحد أن يشمت بأحد. ذلك ما يختم به مهنا احدى مقالاته الفكرية التي ضمنها في كتابه الصادر حديثاً عن الهيئة العامة للكتاب - وزارة الثقافة؛ والذي اختار له عنواناً؛ عنوان المقالة ذاتها «بابل الجديدة» مع عنوان فرعي آخر (في الثقافة والأدب والواقع). ناظم مهنا الذي عرفناه على مدى أربع مجموعات قصصية؛ بورخيس القصة السورية دون منازع وفارس من فرسانها، ومن القلة الذين أخلصوا لفن القصة؛ فكان له: «حُراس العالم، مملكة التلال، الأرض القديمة، ومنازل صفراء ضاحكة» غير أن ثمة مجالاً فكرياً آخر برز فيه، وهو كتابة البحث والمقالة الفكرية والسياسية، إضافة للدراسات النقدية، وهاهو اليوم يجمع بعض مقالاته في هذا الكتاب؛ وهي رغم تنوعها، غير أنه يُبوبها في ستة أبواب، يجمع كل مقالات بابل عنوان واحد، حتى كان «بابل الجديدة» ستة كتب بين دفتي كتاب واحد؛ وهي: مُقارنة ثقافية للأزمة، النظام الدولي واغتراب الإنسان، الثقافة والأفق، الرمز والتأويل في قراءة النص، وقفات مع الرواية والسرد، وأخيراً حول الشعر.
ولعلّ أهم هذه الأبواب؛ هو الباب الأول الذي تبدو فيه المغامرة في تحليل المحنة السورية؛ وهي في ذروة وجعها، حيث يُحلل بلا هوادة، ويقول رأيه بكل صراحة دون انتظار كفة ترجح هنا أو هناك، ومن هنا سنركز في هذه القراءة للإصدار الجديد لناظم مهنا على هذا الباب، لما له من تشابك مع علاقة المثقف ومايجري في سورية، أو المحنة السورية في جانبها الثقافي. منذ البداية؛ يشرح مهنا ما يجري في سورية؛ هل مايحصل هو بحجم «أزمة» فقط، كما يطلق عليها البعض، أم أنها حرب؟؟! ويراها من أكبر الحروب التي شهدتها البشرية على مدى تاريخها، ومن ثم ليس من حل سريع، كما كان يحدث خلال الأزمات، لاسيما وأن من يسمون أنفسهم «معارضة سورية» متورطون بحجم كبير من التبعية للاستخبارات الدولية المعادية لسورية، من هنا لا يصح اعتبار ما يجري مجرد أزمة سياسية تُحل بتوزيع وتقاسم الحصص في السلطة، ونحن في حقيقة الأمر كدولة وشعب نواجه حرباً إرهابية تُشارك فيها أطراف دولية استعمارية وإسرائيل رأس الحربة فيها، وليس صحيحاً أيضاً مايقوله بعض المعارضين باستحالة الحسم وتحقيق الانتصار، فالارهابيون يهزمون في سورية والعراق، وعندما تنتهي الحرب تُحل كل الأزمات، وربما هنا يعود المراهنون إلى رشدهم أو يخرجوا من المعادلة غير مأسوف عليهم. في الكثير من أبحاث هذا الكتاب، يُفّصل مهنّا لماذا الحرب؟، ومن هم مشعلو فتيلها، وماهي غاياتهم، وفي ذلك يُسهب في انتصار نظرية مالتوس، ذلك الباحث الاقتصادي توماس روبرت مالتوس 1766 - 1834، والذي وضع نظريته للحد من النمو السكاني بإشعال الحروب في أماكن عديدة من العالم، من منطق أن الموارد قابلة للنفاذ وغير كافية، واليوم ثمة مالتوسيون جدد يشعلون الحروب بكل أشكالها: الدينية والعرقية والقومية والأهلية.. بدافع الهيمنة، وتقاسم النفوذ، ووضع اليد على الموارد، وتجارة السلاح، وإعادة الإعمار لتنشيط الدورة الاقتصادية في بلدانهم، ولتخفيض عدد سكان الأرض من شعوبها الفقيرة. فمنذ قيامة الصهيونية نشأت معها الروح الحربية، حيث كل يوم نستفيق على تهديد بالحرب الكونية على سورية وإيران ولبنان من أجل إسرائيل، والغريب أن بعض العرب، لم يعد لديهم أي حرج في إعلان تحالفهم مع إسرائيل، واليوم؛ فإن أكثر ما يُهدد السلام في العالم، هو هذه الروح الحربية التي تسود العالم، والمحرك الأكبر فيها هم الصهاينة. هذه الروح الحربية التي تتجسد أكثر ما تتجسد في القوة الغاشمة لأمريكا والغرب الذي لديه احتياطي هائل من هؤلاء القتلة ابتداء من عملائهم في فيتنام إلى الخمير الحمر في كمبوديا، إلى عصابات الكونترا في أمريكا اللاتينية، إلى الجهاديين في افغانستان إلى العصابات المقنعة بالجهاد في سورية والعراق، حيث تتعدد الأسماء والإجرام متشابه وإدارته واحدة هي أمريكا التي تزداد انحطاطاً يوما بعد آخر. يتحدث علماء الاجتماع اليوم؛ عن إعادة تشكيل جغرافيا سياسية جديدة للعالم، على ضوء ما جرى في يوغسلافيا، وبعض دول أوروبا الشرقية، وما جرى في تيمور الشرقية، وجنوب السودان، وشمال العراق، ويذهب «المناطقة» منهم إلى نمط جديد، ينتج عن التفتيت، يطلقون عليه اسم «المدينة - الدولة» وهي بديل الدولة الوطنية، أو القومية المركزية، وللمدينة - الدولة ثقافتها وكتابها وشرطتها وإعلامها وعلاقاتها الخارجية، إذاً لم يُعد النظام الدولي يُشكل أي حماية لأعضائه، ومؤسسيه، ولايكترث بسيادة الدول، ولسان حاله يقول لعصاباته: أنتم دمروا كل شيء، حتى نقوم بإعادة التركيب.! من هنا، فإن أزمتنا، بشكلها الظاهر والخفي، وبكل تعقيداتها الداخلية والإقليمية والدولية، كان بالإمكان أن تكون حقلاً جاذباً لابتكار الحلول، وأن يخرج من رحمها فكر سياسي ناضج، ولكن لم يحدث مثل هذا، فالسطحية والسخف والتكالب والأنانية والمكابرة، ظلت كما هي عليه قبل الحرب وأثنائها، وستبقى بعدها، لا بل ازدادت تردياً وانحطاطاً، والمستغرب من بعض من عُرف عنهم اللاإتنماء ونكران الأديان والعلمنة إلى حد التطرف، يقبلون اليوم في حواراتهم الفضائية أن يوصفوا بانتماءاتهم الفئوية والطائفية الضيقة. اعترف أن كتاب «بابل الجديدة» للكاتب ناظم مهنا أشمل من أن تحيط به مقالة في صحيفة يومية، ولذلك آثرت أن أقدم قراءة في بابٍ واحد منه، تاركاً الاطلاع على هذا الغنى الفكري والتحليلي للكتاب للقراءة المتأنية. |
|