|
ثقافة لم يتغن شاعر بمدينته دمشق مثلما تغنى نزار, فهو الدمشقي الذي خرج من عبق ياسمين دمشق وحاراتها وزواريبها فحين نقول دمشق نقول نزار الذي أضحى اسماً مرادفاً لها (أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي.. لسال منه عناقيد وتفاح). نعم.. لا يمكن التفريق بين نزار ودمشق فقد كان منذ نعومة أظفاره يتمنى أن يكون حجراً من أحجار دمشق: ياشام ياشامة الدنيا ووردتها يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا وددت لو زرعوني فيك مئذنة أو علقوني على الأبواب قنديلا حتى أنه كان أقصى حلم للراحل نزار أن يندمج جسداً واحداً مع دمشق فقال: (أعيدوني لمن علمتني أبجدية الياسمين). شاعرنا نزار دمشقي المولد، دمشقي النشأة، دمشقي الهوى، دمشقي الشعر، الذي خلّد فيه دمشق التاريخ، دمشق العروبة، دمشق الصمود والنضال يقول في نثرية بعنوان (قوس قزح): «أنا محصول دمشقي مئة في المئة وأبجديتي تحتشد فيها كل مآذن الشام وحمائمها وياسمينها ونعناعها، قصائدي تضيئها عينان دمشقيتان». عندما كان نزار يغني للحب، كان يستوحي بيتاً دمشقياً عشقه قبل أن يتراءى له طيف الحبيبة، من وراء الرماية الخشبية في الدار المقابلة تمد يدها عند المساء لتتناول شربة الماء الباردة. أأنت التي ياحبيبتي نقلت لبيض العصافير اخبارنا فجاءت جموعاً جموعاً تدق مناقيرها الحمر شباكنا. لم يكن نزار محايداً في حبه دمشق، كان ملتزماً أبدا بهذا الحب، ينقله معه، من بلد إلى بلد، يوسد خده عليه حين ينام ويغسل عينيه بأطيافه عندما يفيق فيقول: في دمشق لا استطيع أن أكون محايداً فكما لا حياد مع امرأة نحبها فلا حياد مع مدينة أصبح ياسمينها جزءاً من دورتي الدموية وأصبح عشقي لها فضيحة معطرة تتناقلها أجهزة الإعلام، هذه المدينة تخصني، تشغلني، تضيئني، تكتبني، ترسمني باللون الرمادي, تزرعني قمحاً وشعراً وحروفاً أبجدية، تغيّر تقاطيع وجهي، تحدد طول قامتي، تختار لون عيني، تؤكدني، تجددني، تقبلني على فمي فيتغير تركيب دمي. في الشام لا استطيع إلّا أن أكون شامياً، لا استطيع إلا أن أكون حمامة أو بنفسجة أو عريشة عنب، لا استطيع إلا أن أكون قصيدة، أو مئذنة، أو نهداً أو سفرجلة. وهكذا نرى أن شعر نزار في دمشق قد امتزج بحياته الدمشقية التي عاشها منذ طفولته وحتى صباه وشبابه وكهولته فكل ذرة فيه تنبض بحب دمشقي وبعشق دمشق, فصارت في الدنيا دمشقان دمشق العروبة والأمل، ودمشق نزار قباني. |
|