تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الإبداع من وحي التجربة الفردية

شباب
2012/3/19
إرم ديّوب

كان قد فقد وطنه و لم يجد حوله إلا النفوس البائسة المُهَجّرة و المرمية على الفرش و الحصر, عندما التقط من أرض المخيّم قطعة فحم و بدأ يرسم. من هنا بدأت رحلة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي,

رحلة النضال في وجه الآلام. هذا مثالٌ واحد من آلاف الأمثلة الفريدة التي نعرفها و آلاف أخرى لم نسمع بها خلقت من معاناتها الخاصة أعمالاً عظيمة تؤثر في وعي جمهورها و رؤيته و فكره, فهل من مفهوم أسمى للإبداع الفني؟‏

إيقاظ النفس المبدعة‏

كم من طفل و شاب عاش تجربة ناجي العلي ذاتها, و كم يعيش الأفراد تجارب فريدة تذهب طي النسيان دونما إبداع يلفت انتباه الآخرين إلى قيمتها. إن الخطوة الأولى في سبيل تفعيل الإبداع النابع من التجربة الخاصة هو إيمان الفرد الحقيقي بقيمة حياته و تفاصيلها و أفكاره عنها, فمن هذا المنطلق تتوافر لدينا المادة الخام و أساس العمل الإبداعي الناجح.‏

و على أساس الإيمان بقيمة التجربة الفردية, يتجرد العقل من الأفكار المسبقة عن المقاييس المحددة لشكل و مضمون النتاج الإبداعي, تلك الأفكار التي نجمعها من الأعمال الفنية الشائعة في يومنا و التي قد تُحدّ العقل و تُغفل نظر صاحبه عن القيّم من تجاربه و ما يستحقّ المشاركة مع الآخرين. يجب أن يبقى الفرد يقظاً تجاه تفاصيل حياته اليومية و عمق نفسه باحثاً عن مصادر الإلهام.‏

الاستبداد و الفكر المبدع‏

يعيّن قيمة الأفكار هدَفٌها في ترك الأثر في الجمهور و رفع وعيه أو تساؤلاته تجاه مشكلة ما. و قد تدرك الأنظمة المستبدّة ذلك الجانب المهدِّد لكيانها فتسيطر على وسائل الفن و الإبداع و تمنع كل ما يرفع وعي الأفراد للمطالبة بواقع أفضل و أكثر إنسانية. و الدليل الأكبر على عظمة تهديد الإبداع الحقيقي و النابع من واقع تجارب الفرد هو تورط أنظمةٍ و حكوماتٍ باغتيال المبدعين المنتفضين ضد الواقع الأليم أمثال ناجي العلي. و ليس المستوى المنحدر للفن الموجَّه للشباب إلا أداة في يد المستبدين, تسيطر على عقولهم و مقاييس تقييمهم للأغنية الجيدة و النص القيّم و الأشخاص القدوة. و بالتالي تسيطر على تقييمهم لتجاربهم و مستوى حياتهم و أهدافهم وفق ما يسلّمون به. و إن حجب الأنظمة المستبدة لأفكار الأفراد الواعين لواقعهم يزيد من تعمّق آفة اللاوعي الجماعي. إذ يدرك الاستبداد أن الفرد الغافل غير المدرك لقيمة أفكاره و تقييمه الخاص لتجاربه يستيقظ إذا ما وجد في عمل إبداعي حياةً مشابهة لحياته يكون صاحبها أكثر وعياً, فيبدأ الغافل بطرح التساؤلات عن واقعه و النظر في تجاربه بعين المقيِّم.‏

الجمهور الحقيقي‏

يمكننا أن نعدّ التقاط ناجي العلي لقطعة الفحم و رسمه لما يختبره و يعاني منه هي نقطة تحوله من فرد عادي يعيش آلام حياته القاسية إلى فرد مقيّم لواقعه و أفكاره, و هي أيضاً نقطة تحول تجاربه الفردية إلى تجربة جماعية يجد فيها الجمهور محاكاةً لتجاربهم الخاصة فيتأثرون بها. و إن مَن ميَّزَ ناجي العلي و رفع شأنه هو الجمهور الواعي لمعاناته المشتركة و نضاله الواحد من جهة, و الإبداع الذي حوّل تلك المعاناة إلى أعمال فنية عظيمة من جهة أخرى. لقد توافر ذلك العنصر عند شعوبنا في زمن شباب ناجي العلي, أما في يومنا هذا فما عسانا إلا أن نسأل: هل يتوافر الجمهور الواعي و القادر على تمييز الإبداع الحقيقي و رفع شأنه؟ و إذا ما نظرنا إلى واقعنا و آلامنا المشتركة كشعوب تعاني الأشكال المتعددة للاضطهاد و التخلف, فهل من أولئك الذين أوجدهم مجتمعنا رموزاً للإبداع مَن يقارب أياً من تلك المعاناة الحقيقية النابعة من الواقع إن كان في القصة أو الرواية أو الشعر أو الرسم؟‏

و ماذا لو استطاع كل فرد في وطننا تفعيل ذلك الإبداع و ربطه بواقعه؟ ماذا لو استطاع كل فرد أن يولِّد مثل تلك القوة الفريدة لأعمال ناجي العلي التي حركت ضمير العالم و هددت أنظمةً و كيانات؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية