تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أعمدة من ورق «10»

ثقافة
الثلاثاء 26-1-2010
أســــــــــعد عبـــــــــود

العزلة لأجل الدراسة أو المذاكرة تدفع للضجر والضجر يدفع إلى الشارع.. لا أدري ماذا في شوارع دمشق تهتك الوقت.. عندما كبرت بنا الأيام وسافرنا وعددنا الرحلات، اكتشفت أنني قد أضجر من كل شوارع العالم إلا شوارع دمشق.

وما زالت تجذبني إلى درجة الشوق.‏

في الشارع والدنيا أول الخريف.. وأمري مبتوت فيه «سأعيد التقدم لامتحان الثانوية» جمعتني خطا التسكع وتأملات «الصفن» بصوت يناديني.. عرفته قبل أن أدير رأسي.‏

سلّم عليّ فيصل بحرارة.. وسألني ماذا فعلت؟ وقبل أن أجيبه أمسك بيدي وقال: تعال نشرب شيئاً.‏

توقفنا عند مدخل بناء مقابل مقهى الهافانا.. على المدخل بائع عصير تمر هندي وليمون.. كأس صغير بفرنك، وكأس كبير بفرنكين.. قال لي فيصل:‏

< بفرنك.. أم بفرنكين؟!‏

- بفرنك.‏

وقفنا نشرب العصير المدهش.‏

< كيف الثورة؟‏

- أي ثورة؟‏

< الثورة وليس «الازفستيا تبعك» ثورة 8 آذار.‏

- يشتغلون.‏

< ببعضهم..؟!‏

- لمصلحة الناس والبلد.‏

< كيف مثلاً؟‏

ونحن نتبادل أطراف الحديث وصل أحد محرري الثورة.. كان من القلائل الذين تعرفت إليهم.. «أيوب منصور».. كنت أحب كتاباته جداً.. وسمعت عنه أنه ثوري ماركسي من تيار ماوتسي تونغ.‏

أحسست بأهميتي وأنا أعرّف أيوب إلى فيصل.. قال فيصل:‏

-اقرأ له.‏

ثم نظر إليّ وأعاد السؤال:‏

< كيف الثورة؟!‏

- يشتغلون.. يشقون طريقاً عندنا.. ويتحدثون عن مدرسة ثانوية حكومية وغيره...‏

ضحك وقال:‏

< طريق ومدرسة.. وهذه هي الثورة.‏

ابتسم أيوب وقال لي: تعلّم منه.. وقبل أن يغادرنا مودعاً، سألته إن كانوا أختاروا مديراً عاماً جديداً للثورة، وأجاب بالنفي.‏

قلت لفيصل:‏

- كأنك لم ترحب بأيوب..‏

< متطرف.. تروتسكي.. ماوي.‏

ضحكت وقلت له:‏

- لكنه ابن الثورة.‏

< الأزفستيا.‏

- نعم‏

< مناسبة لك.‏

- لماذا؟‏

< أنت تبحث عن مدرسة وطريق إلى قرية.‏

- وأنت؟!‏

< أبحث عن الثورة.‏

كنا قد مشينا في الشارع بعدما أنهينا الشراب.. باتجاه بوابة الصالحية وعلى يساري مكتبة تبيع الصحف.. اتجهت إلى البائع فوراً وأخرجت ثلاثة فرنكات واشتريت «الثورة» وأعطيتها له.‏

< أتصفحها وأعيدها لك.‏

- أجدها في البيت.. هذه لك.. ألم تقل إنك تبحث عنها..‏

< شكراً.. هذا تثقيف بالإكراه.‏

- لا ينقصك ثقافة.‏

< تنقصنا ثقافة الثورة « الأزفستيا»‏

خفت أن أكون قد وضعت نفسي في مأزق، خفت أن يرمي الصحيفة أو يمزقها أو أن يفعل شيئاً من هذا القبيل.. لكنه طواها وحملها بيده بكل احترام.‏

قبل أن نفترق سألني:‏

< هل انتسبت لحزب البعث العربي الاشتراكي.‏

- لا .. بكّير..‏

< ألا تفكر أن تكون ضابطاً؟‏

- أبداً.‏

< لماذا.. عبد الرحمن.. وتيسير.. وحارث.. وزهير.. كلهم انتسبوا إلى الحزب وتقدموا إلى الكليات العسكرية.‏

- أنا سأعيد البكالوريا.‏

< من أجل الجامعة.. الهندسة.‏

- نعم.‏

< اسمع مني ادخل جامعة «الثورة» أعني «الأزفستيا».‏

- أريد أن أكون جامعياً.‏

< سجل كلية نظرية.. وتوظّف في الثورة.‏

- فات الأوان.. انتهى التسجيل..‏

كان هو قد سجل في قسم التاريخ في كلية الآداب.. وعندما زرته في الجامعة بناء على موعد أحسست بالندم لأنني لم أختر كلية نظرية.. جلسنا في مقصف الجامعة الصغير.. ومعي الثورة.. وقدمني كمشروع صحفي إلى صديقيه أو زميليه أو رفيقيه لا أدري.. أذكر أنهم كانوا يتفقون في الرأي بسرعة ويعاملونني بقبول وصائي.‏

بعد أيام التقيت «أمين» من رفاق ثانوية جبلة وكان يدرس في قسم الجغرافيا.. وقال لي: إنه رآني في مقصف الجامعة وكنت أجلس مع ثلاثة شيوعيين.‏

< كيف عرفت أنهم شيوعيون؟!‏

- الشيوعيون لا يخبئون أنفسهم.. مهمتهم نشر الشيوعية.‏

< وغيرهم؟!‏

- هم ثوريون..‏

< يقرؤون الثورة؟!‏

- لا هذه للبعثيين..‏

< ولي!!!‏

- ألست بعثياً؟!‏

< حتى الآن.. لا.. ولست متقدماً للكلية الحربية.‏

- لا يأخذونك.. حجمك صغير.. وضحك.‏

مات أمين شاباً.. لم أقابل في حياتي من أحب الحياة والضحك والتمتع مثله إلى ذلك، فقد كان وديعاً مسالماً و«قبضاي».. مات وهو ذاهب للتعزية بأحد زملائنا الذي استشهد وهو يتدرب على الطيران الحربي.‏

الدنيا من أمامنا أفق عريض.. وجبهة حياة بلا حدود.. وفي داخلي سؤال أقمعه دائماً.. لماذا تصر على دراسة الهندسة..؟!‏

a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية