|
ملحق ثقافي لا أحد كان بإمكانه أن يذهب في الدقة والصرامة كما فعلت بحياتي الماضية. ولكن في تلك الليلة كنت أخرق العادة.
هل هي الخيبة، أم هو الندم ؟. ربما هما معاً أخذا من الإحباط أمراً فناديت الأولاد. منى وتغريد وسليم جلسوا قرب “التلفزيون” بمجرد أن دعوتهم إلى الفرجة على فيلم السهرة. أي واحد منهم لم يكشف سناً، أو يسر إلي همساً. كالألف ظلوا صامتين.. بدون نقيق كانوا ضفادع بأجساد بشر. المساكين !. لا أدري تماماً ما ذا فعل بهم منهج تربيتي الصارم ؟. بدل أن أعاملهم برفق أخضعتهم للقسوة والشتم. إيه.. كم ظلمتهم !. دون رحمة جلدت أمنياتهم الصغيرة، لا بل قهرتهم بالقمع والكبت. لكني أنا الآخر كنت ضحية. ما ذنبي إن كانت تجاربي وقناعاتي قد برهنت مؤخراً سوء التقدير؟. بكامل الغباء شططت عن حساباتي اعتبارات الحظ والنفاق ونوازع الشر ومخارج الخداع. تحقيق النجاح لم يكن يحتاج إلى التسويات التي عقدتها مع نفسي. على أية حال مافات مات. منذ الآن سأصبح أباً عصرياً. الحياة هم. يا الله !. ما هذه البراءة التي تنخنخت على وجه منى ؟. إنها قسمات ملاك. لَهْ !. ما بالها فزعت لما اختفت الأغنية الاستعراضية، وظهر المذيع ؟. حين غزا صوته الجهوري مسامعنا راحت تقضم أظافرها بقلق. حتى أنا _بشواربي الكثة ومنكبي العريضين _ ارتعبت. ثم استمالني الفرح.. عصافير قلبي زقزقت بعد أن سمعت إعلان المسابقة !. شركة ذوقيا ذاتها ستمنح الفائزين الهدايا. ستحصي أحياء المدن وطلاب الشهادة الثانوية. بشحمه وبلحمه مالكها المليارديير “ابراهيم” سيزور الحي الذي يوجد فيه أكبر نسبة من المنتسبين إلى كليتي الطب والهندسة. كل طالب تؤهله علاماته للدخول في إحدى الكليتين سيهدى له مبلغاً محترماً وسيارة فخمة من نوع “مرسيدس”. إلهي ما أكرمك !. في اللحظة التي كدت فيها ان أزلق عن منهج التربية القديم وصلتني رسالة منك لأعود إليه. ونظرت بحماسة إلى فلذات كبدي.. هو سليم وحده لاغير _ بقسماته الجدية ونظاراته الطبية _كان يوحي إلي بمشروع مهندس اوطبيب. العمى !. كيف ضيعت وقته ؟. لا أعرف بماذا تلون صوتي وأنا أصيح : _ اشتهيت أن يشعر أحدكم بالمسؤولية.. أن يعارضني.. أن يقول :”لأ” يا بابا. لا أريد أن أحضر الفيلم. هيا. هيا إلى غرفكم. على الفور ذروا خوفهم بأكثر من لون.. باستثناء سليم.. نحّى بسمته،ومشى بلا مبالاة. سوى أن زوجتي تضرغمت أمامه.. طرحت أرضاً نظراته الضاغنة. ولقد صعقني انقلابها المفاجئ.. هي “الحبابة” شرسته شرساً بكلماتها الغليظة، الجافة : _ “هيْ بكالوريا هيْ” “مانا” لعبة. الكسل والنوم والاستهتار أعطهم لطالب لا يسكن في هذا الحي. إياك أن تدعني أراك لحظة من دون كتاب. “المرسيدس بدها هز كتاف وتعب ليل ونهار”. وألفيتني أهنئ نفسي فرحاً. لا أعرف إن كنت تمتمت همساً أم صمتاً !. “ أينما تكونوا يا رجالات ذوقيا تستحقوا ألف تحية. هيذي زوجتي التي تركتني سنوات وسنوات أتخبط وحيداً مع الأولاد، تؤازرني اليوم بحماسة. أخيراً فكرت في أن تمحو إهمالها.. أخيراً قررت أن تساندني. لقد سامحتها.. صفحت عن كل محاضراتها المزعجة.. عن كل أيام الحرد علي بعد “العلقات” الساخنة التي كنت أصم بها “شقاوة” الأولاد. لطالما حلمت بأن نصبح قلباً واحداً.. أن نعلن معاً استمرار معركة الأجيال.. أن نرفع بيد واحدة الراية الحمراء ونهتف : عليهم يا ذوقيا.. عليهم يا بكالوريا.” إيه !. كيف مرت تلك الأيام ؟. سنة كاملة لم نزر فيها أحداً ولم يزرنا أحد خلالها. في الليالي الباردة والدافئة كنت أكنكن مع زوجتي في غرفة النوم ونتسامر بصوتٍ منخفض. ولقد اكتشفتُ في حنجرتها حقل ألغام. دون توقع كانت تنفجر أحياناً بصياح وعياط.. ذات مساء، وأثناء جولة تفقدية على الاولاد أرعبني صوتها : _ الدرس ورطة يا كسلان ما ؟. بهذه العصا سأعلمك كيف تكون الورطات. بدل أن تشكرني على كأس العصير تريد استراحة ساعتين ؟. جيل مصروع لا يأتي إلاّ بالقمع. يبدو أني تساهلت كثيراً في الماضي. ثم حوم الصمت، أو ربما غفوت. ولعلي أفقت بعدئذٍ وأنا أبسمل وأحوقل ذعراً. على بغتة كانت زوجتي قد جبلت نبراتها مع زئير نمرة : _ تقف كالأبله كأن الأمر لا يعنيك. من سيفوز” بالمرسيدس”إذن؟. طلاب حارة الصنائع ؟. إذا لم تفتح الكتاب فوراً سأحول ليلك إلى جهنم. رغم فرحتي بها كنت محتاراً فيما جرى لها !. عبثاً بحثت عن حنانها القديم.. وأنّى لي أن أسمعه وقد أصابه فقد وعي مديد ؟. بيد أن مزاجها فرّط في الحزم بلا ميعاد. نفض عنه الحنق والغضب.. وعلى مضض جافى التوتر والنكد. ربما بعد تفكيروتدقيق رصّع الحلم باللين ناظماً فيه اللطف والسماحة والانبساط. لقد قرأت مقالة في مجلة”وديان الكلام” فنفش ونفض قلبها الحنان. “ القسوة تغرّب المراهق عن والديه. التوبيخ والتقريع يربكان الجهاز المناعي النفسي لبعض المراهقين والمراهقات. أسلوب التلميح في التربية أكثر فائدة من التصريح. النصائح والقوانين التي يفرضها المربي بالإكراه تؤدي إلى التمرد والعصيان “. يبدو أن تلك الأفكار للدكتور أحمد العباد قد زلزلت وأرجفت زوجتي : في اليوم ذاته لم تدخل إلى غرفة سليم وهي تعيط وتصيح.. بلا زجر اقتربت إليه، ولما رأته نائماً خرجت إلى الممر. لا مرتفع ولا منخفض كان صوتها، طبقته الرائعة مكنتني من سماعها وأنا أغسل يدي فوق المغسلة : _ تغريد، أ رجوك أيقظي سليم بلطف. اخشى أن أحاول أنا فيفلت مني الغضب. أو اصيح فيرتعب. يكفيه “البلاوي” التي نزلت عليه من حماقاتي خلال السنة. “بجوز” نسي أن الفحص غداً. كما لو أني وأنها جاسوسان وقفنا وراء الباب نسترق النظر. هزته تغريد فشهق. ليس من الرعب فقط صرخ، إنما لأن الكابوس الذي رآه كان قد ضيّق وشقّ على حنجرته فارتخت لما أفاق. بإسهاب حكى لأخته ما أرعبه في المنام : _ كنت في قاعة الامتحان. من الخوف كنت “رح” أبول بثيابي. لم أفهم أي سؤال من ورقة الفيزياء أو الرياضيات. ما عدا فحص الموسيقا، كان السؤال مكتوباً بخط واضح في أعلى الورقة. “ قارن بين المطربين عمرو دياب وعلاء زلزلي، ثم حدد النقاط المشتركة بينهما دون إغفال الاختلاف “. ونظراً لثقافتي الواسعة في هذا المجال حصلت على علامة تامة في الموسيقا. طبعاً رسبت بجدارة في المواد الباقية. تغريد “شو” رأيك؟. أحفظ أغاني علاء زلزلي أم أدرس المطرب عبد الحليم مع أستاذ خصوصي ؟. _ “ولك سليم شبك” ؟، “هيدا” فحص ثانوية،”مانو” حفلة غنائية. ولم يجب سليم.. تجاهل تغريد وأخذ يغني. ومع أني ألزمته بالعودة إلى الدرس، إلاّ أن صمته وتّرني أكثر ما طمأنني.. ولم أعلم !. هل راح يدرس فعلاً ؟، أم أخذ يغني همساً ؟. في تلك الليلة لم يشرق النوم على بدني.. غربت العتمة وأنا أترقب الفجر. غير أن سليم ارتدى ثيابه، وبالإضافة إلى الأقلام حمل “الموبايل”. وحين خرج كشّنا بانزعاج. لم يكن يريد أن نرافقه إلى مركز الامتحان، فلحقناه.. بخفة اقتفينا أثره إلى أن وقف قرب الباب الحديدي للمدرسة. وسعل مراتٍ عدة ثم بدأ الغناء.. كثعبان ظل يرفع يديه ويلويهما. وبكامل الطرب كان يخبط قدميه بالأرض ويدور كراقص نشوان. ولقد خلجت مخاوفي كعصفور لزق بالدبق. من هنا أو هناك ظلّ صوته يلعلع بالغناء حتى بعد أن اختفى خلف الجدران. وازداد خوفي شبقاً.. كيف لا ؟. وهو الذي خرج بعد دقائق ملحناً هذه الكلمات : _” ياليل وين المرسيدس ؟ ياعين وين الليرات ؟. “ على عجل التف حوله رجال. أمطروه بالصياح وباللكمات.. عندما قاومهم حاولوا أن يقيدوه. فارتخى قميص خوفي حتى فلت. مع كامل جوارحي ركضت.. لم أدرأضربه أم أضربهم ؟. ربما دون وعي قلت : _ أرجوكم احملوه معي إلى القاعة. وسأقنعه بالإجابة عن أسئلة الامتحان. لكنه ملص مني ومنهم. ثم ابتعد وبحرارة صار يغني. منقباً في خطواتي عن سرعة جواد لحقته بلا إبطاء. ومع أننا وصلنا معاً إلى البيت لم أستطع أن أسوط صوته أو أقمع رغبته المتواصلة في الدندنة و الغناء. ثم استعنت بطبيب وبأصدقاء فلم يقدروا على كبح جماح صوته الطنان. ومع أن معركة الفوز كانت لاتزال محتدمة في الأحياء تضاءلت أحلامنا إلى أن صارت أمنية فقط . في كل مساء كنا لا نتشهى إلاّ الإغفاء. بلا طائل بحثنا عن حيلة لنمنعه من العزف على الطبلة، أوالغناء. وعلى الرغم من تأففنا، ظلّ صوت سليم يشق همسات الليل بأغاني كاظم الساهر وعبد الحليم. |
|