تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ثنائية الفضاء الأسطوري والواقعي

ملحق ثقافي
26/1/2010
المؤلف:عبد الناصر حسو:إذا كان بروميثيوس بطل الثقافة اليونانية قد سرق النار التي كانت حكراً على الآلهة،

وأهداها للبشرية ثم عوقب على فعلته زمناً طويلاً، فمن الذي اختطف المسرح من أروقة المعابد وقدمه على مدرجات جبال أثينا بصيغته الدنيوية إلى الإنسان ليترك وراءه مذاهب ونظريات تسحر إنسان القرن الحادي والعشرين؟.‏

لم تكن الدراما المسرحة وليدة لحظة فكرية خاصة، أو وليدة حضارة بعينها، بل كانت مخاضاً ثم تطورت عبر سيرورة الأساطير طقوس العبادة والشعائر الدينية المقدسة في المعابد حيث كانت الاحتفالات الدينية تقام داخل المعابد أو بجانبها للآلهة من خلال الجوقة التي كانت ترقص وتغني وتعزف وتتلو مشكلة بذلك فضاءً دينياً، وفضاءً دنيوياً ملتزماً بالعقل بعد الاحتفال، فوجود الإنسان في الاحتفال الديني يفرض عليه فضاءً خاصاً يمكن الاستدلال عليه من خلال المحتفلين وأفعالهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم في إطار الحدث الديني، وبذلك كان الإنسان مطبوعاً بطابع الروحانية، وفي الوقت نفسه يسعى للتوحد مع الآلهة عن طريق «الرقص البدائي، العزف، الغناء، والمحاكاة»، حتى أن المنصة المسرحية كانت تحوي المذبح، يجري بجانبه أو حوله التمثيل وهذا هو فضاء الآلهة «فضاء ديونيزوس، فضاء الجنة، فضاء النار في العصور الوسطى، « وأفرزت نصوصاً درامية اعتمدت في مجملها على لغة الشعر المرسل، وبالانتقال من فضاء الاحتفال الديني إلى فضاء آخر دنيوي، وبما يشكل صراعاً وتنوعاً بين الفضاءين، فأنتجت بما لايقل عن ذلك من الصور المختلطة والطريقة المركبة أكثر مما ينشأ من الطبيعة الثنائية التي تدفعنا إلى التعبير المسرحي، ونستطيع أن نسمي هذا الفضاء أو الدافع دافعاً إلهياً وإنسانياً/ اجتماعياً من تلك الدوافع التي تحرك الناس إلى المتعة، وذلك بما له من فعل في أعمق تيارات الكيان الإنساني وبما له من فعل في الأزمات الشخصية واللحظات الهامة من لحظات التجربة التي يمر بها الإنسان، يتحتم عليه في هذا الفضاء جملة من التصرفات المغايرة مثل الملابس واللغة المنطوقة «شعراً» والتعامل مع الآخرين،‏

وهو فضاء إنساني يومي، ضمن هذين الفضاءين اللذين يشكلان صراعاً ما بين الديني والدنيوي لم يستطع العرض المسرحي التخلص من المعبد إلا مع تضاؤل هيمنة الأيديولوجية الدينية نسبياً، مع ظهور كوميديات أرسطو فانيس، وكان الإحساس بالحاجة إلى عرض دنيوي ضرورة يختلج ذهن المتفرج فخرج العرض من أروقة المعابد إلى العربات الجوالة والفضاء الرحب في الهواء الطلق حاملاً معه رواسب دينية، وبالتالي أخذ طابعه الدنيوي/ الإنساني، وأدرك الممثل والمتفرج حينئذ أن التمثيل وهم وابتكار لحبكة لاتنطوي على التطابق بين الممثل والمتفرج ويعي هذا المتفرج أن التمثيل محاكاة لحدث أو فعل قدسي قد يتكرر في كل مناسبة «شعيرة طقسية» وليس إعادة له، فكل فضاء يزخر بمجموعة من الديكورات توثثه وتخلق علاقة بينه وبين الشخصيات.‏

وقد تضافرت ثلاثة مقومات لتشكل كياناً لطقوس دينية، وهي الرقص والغناء والموسيقا والفعل المسرحي بمشاركة عدد من الناس، حيث ينفعل الجمهور المشارك أيضاً في الاحتفال مع مايشاهدونه بشيء من التقديس، منسجمين مع عقيدة اليونان القديمة.‏

وقد شعر الإنسان بالوهم بفضل اللعب المسرحي. وكان رد فعل الشاعر اليوناني سلون أمام أول عرض للشاعر تيثبيس في أثينا، بليغاً وذا مغزى، حينما وجد نفسه لأول مرة في مواجهة مع الممثل، الذي يجسد صورة حقيقية عن الواقع, وقد اعتبر أن مثل هذا النوع من الكذب تدنيس لكل ما هو مقدس ومحرم، مما اضطر لترك المسرح، احتجاجاً على هذا العمل غير اللائق.‏

تعتبر ولادة المسرح لحظة مهمة وجوهرية في تاريخ البشرية بعد تخلصها من الطقوس والشعائر الدينية، وحافظ المسرح الأوروبي على الحنين إلى الفضاءات المقدسة التي خرجت من أروقة المعابد والكنائس، وكانت نصوص اسخيلوس وسوفوكليس تؤدي وظيفة دينية ووظيفة فنية دنيوية مثل التهذيب الديني، والتطهير النفسي، والتوعية الأخلاقية. وبالتالي اهتمت الدراما المسرحية بتصوير الإنسان وعلاقاته الاجتماعية والسياسية والعاطفية، بينما نصوص يوربيدس كانت أقرب إلى الحياة الإنسانية، لكن شخصياتها لم تخرج عن عباءة الأسطورة والطقوس والدين،‏

فكانت الآلهة وأنصاف الآلهة والملوك والنبلاء، وتنطق لغة شعرية نظمية سامية وراقية ومكثفة، وأحياناً تنطق شعراً غنائياً أقرب إلى موقف المتصوفة، ووضعت قناعاً يخفي ملامح الوجوه ويمنح طابع القداسة، وارتدت الأزياء الأنيقة، وحتى حشا بطنه وصدره وأزياؤه بالأقمشة ليبدو من بعيد عملاقاً يتناسب مع الشخصيات التي يؤديها، إذ لا يجوز أن يكون الإله أو الملك قزماً ضعيفاً، وانتعل حذاءً طويلاً عالياً، واتخذ الديكور معبداً أو قصراً أو واجهة من كليهما، وبالتالي مازال الديني مسيطراً على العرض أو على الأقل على الدنيوي، ولم يستطع الخروج من سيطرة المعبد نهائياً إلا مع تضاؤل دور الجوقة في نصوص يوربيدس حتى أصبح التمثيل أكثر إنسانية وأكثر واقعية وأكثر تقرباً من الحياة، فقد بدأت العقلانية تتسرب إلى المتفرج رغم رواسب الروحانيات فيه، لكن فيما بعد تغير كل شيء فأصبح المتفرج حسياً ومتطفلاً أيضاً.‏

حرّمت الكنيسة ممارسة التمثيل وتقديم العروض المسرحية في القرون الوسطى، لكنها أدخلت فيما بعد مشاهد صغيرة في مجرى الأناشيد المعروفة في جميع الكنائس باللغة القومية لكل بلد كون اللغة اللاتينية كانت سائدة على الجو الكنائسي، وهنا توسع حجم الهوة التي حدثت ما بين فضاء الكنيسة المقدس والفضاء الدنيوي للحياة. وعلى هذا الأساس، يوجد شرطان سيكونان فيما بعد ضروريين لتحديد مفهوم المسرح الذي حل محل الطقس: هما تكيف اللغة القومية وجعلها دنيوية بعد تحريرها من كل ما هو مقدس. هنالك مظاهر اجتماعية وفنية، كانت سبباً بالانفصال بين الدنيوي والمقدس، الذي حدث في المجتمع الغربي في عصر النهضة، واكتشاف نماذج أخرى قديمة.. فكل بلد قد أدخل خصوصيته الثقافية على هذه الطقوس وكيّفها في شكل مسرحي مختلف.‏

قفز المسرح قفزة نوعية باتجاه الطقوس عندما لم يكن الطقس مسرحاً، وأصبح التقليد أو الاحتفال على شرف قائد انتصر في معركة ما، فمثلاً يضطر المحاكي التعبير بفعل إيمائي ويقلد «يحاكي» شخصية المحارب أو الصياد أو الملك أو النبيل، وبالتالي تحول الحدث إلى دراما إنسانية، فهو يضع قناع حيوان أو إنسان أو إله ليحاكيه، وبقيت الجوقة مستمرة حتى العهود الأولى من تاريخ المسرح وهي استمرار خاص من العبادات الدينية.‏

مع بداية عصر النهضة الأوروبية تخلصت الدراما المسرحية من سيطرة الأجواء الدينية نهائياً، إذ كانت النهضة تتجه إلى فك ألغاز العالم القديم من طقوس وأساطير، وتحاول أنسنتها فحلت الأنسنة محل التدين، واتخذ المسرح منحىً إنسانياً يهتم بالعواطف والأحاسيس والعقل والمواضيع الإنسانية والتاريخ والفنون التشكيلية والتهذيب النفسي للإنسان، فظهر ليونارد دافنشي في الفن، ودانتي في الرواية، وكنح بترارك الروح الإنسانية والروح التحررية في الإنسان وأصبحت الحياة الإنسانية هي التي تهيء المادة الخام للمسرحية الجديدة، وشكسبير ومارلو وبن جونسون وفيما بعد كوميديا ديللارتي والكلاسيكية الجديدة، وأخرجت ثورة الإصلاح الديني البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر المسرح من طابعه المقدس/ الديني إلى طابع المدنس/ الدنيوي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية