تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وليد الشامي حراك لا يهدأ ولغة فنية معجونة بالواقع والخيال

ملحق ثقافي
26/1/2010
المؤلف:د. محمود شاهين:تقف تجربة الفنان التشكيلي السوري وليد الشامي اليوم، على أعتاب الأربعين عاماً من العمر،

كانت خلالها دائمة الحراك والتنقل بين ضفاف الفن التشكيلي وتقاناته التي اشتغل على معظمها، وحقق نتائج لافتة فيها، أخذت طريقها إلى عدد كبير من المعارض الجماعيّة والفرديّة، أخرها شهدته ندوة الثقافة والعلوم بمدينة دبي _ الممزر «تشرين الثاني _ نوفمبر _ 2009»‏

ضمنه خمسين لوحة زيتيّة من إنتاجه الأخير الذي أنجزه في دولة الإمارات العربيّة المتحدة حيث يعمل منذ عدة سنوات، وكان العام الماضي قد أقام في مؤسسة السركال الثقافيّة «دار التراث» بدبي أيضاَ، معرضاً دعاه «مراحل» ضمنه تسعين لوحة موزعة على الوجوه، والخطوط، والمزاج.‏

الفنان الشامي من مواليد حمص 1949. بدأ تجربته الفنيّة العام 1966 في مركز صبحي شعيب للفنون التشكيليّة بمسقط رأسه، ثم تابعها في محترفات كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق وتخرج في شعبة الحفر والطباعة العام 1975، وهو صاحب أول معرض في الهواء الطلق بسوريّة، حيث أقامه في حديقة ابن هانئ بدمشق العام 1973.‏

اتجه الفنان الشامي إلى التصوير قبل دراسته الأكاديميّة وبعدها، مارسه بتقاناته اللونيّة كافة، وجرّب مدارس واتجاهات فنيّة عديدة، لكنه كان ولا زال، دائم الارتداد إلى الشخصية الفنيّة التي نضجت وتبلورت أثناء وبعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة، والقائمة على جملة من الخصائص والمقومات باتت مرتبطة به دون غيره، انضوت في ثلاثة اتجاهات وأساليب، حملت جانباً كبيراً منها، أعمال معرضه الذي أقامه العام الماضي في دبي تحت عنوان «مراحل» التي صنفها على أساس المضامين والصياغة الفنيّة في آنٍ معاً، الأمر نفسه تكرر في معرضه الأخير الذي ضمنه نفس المراحل ونفس الأساليب والصياغات.‏

الواقعيَّة التعبيريَّة‏

اعتمد الفنان وليد الشامي، ومنذ البدايات الأولى لتجربته الفنيّة، على صيغة فنيّة توفيقيّة، ماهى فيها بين الواقعيّة المختزلة، والتعبيريّة المشوبة بروح الانطباعيّة، وهو الأسلوب الذي اشتغل عليه غالبية مصوري مدينة حمص، بتأثير ما ينهض على حوض نهر العاصي من جماليات الطبيعة والعمارة الريفيّة القديمة، والتي شكلت موضوعاً أثيراً لغالبيتهم، ومنهم الفنان الشامي الذي كرس القسم الأكبر من أعماله الفنيّة لرصد جماليات العمارة القديمة، والطبيعة الخلويّة في مسقط رأسه «حمص» وريفها الساحر الذي جال وصال فيه، بحثاً عن مواضيع مناسبة لأعماله التي مزج فيها بين الواقعيّة والخياليّة، ذلك لأن الفنان الشامي لم يأخذ الموضوع الواقعي كما هو، وإنما كما يرغب أن يراه. أي أعاد صياغته، وفق رؤية جديدة، صاغ من خلالها المفردات والعناصر المشخصة الطبيعيّة والمعماريّة والإنسانيّة، المعالجة بشيء من الواقعيّة المختزلة، بأسلوب واقعي تعبيري ثر الألوان، مُبتكر التلوين، متداخل العناصر، منسجم التأليف والصياغة، رغم تباين هذه العناصر، ولا واقعيّة تناولها. فقد أدخل الوجه الأنثوي الصبوح الذي لم يغب من لوحاته منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، على العمارة والطبيعة، بما يشبه الموتيف الحاضن لقصيدة شعرية مُصاغة بالخطوط والألوان ومعطيات الواقع وتهويمات الخيال والروح.‏

انعتاق دائم‏

والحقيقة، ورغم الهدوء الظاهري، والوداعة المتناهية المتلبسة للفنان الشامي، تسكنه ثورة عارمة، ورغبة شديدة بالانعتاق والتفرد والخروج الدائم عما يشتغل عليه، مدفوعاً برغبة التجديد والإضافة ومواكبة الحداثة المرتبطة بالفن العالمي، أو تلك المرتبطة بالحراك الفني التشكيلي العربي الباحث عن الصوت المميز، في عالم اختلطت فيه الأصوات وضاعت الملامح، بدليل تنقله الدائم، بين الصيغة التجريديّة الأوروبيّة، والحروفيّة العربيّة التي تناولها هي الأخرى، برؤيته الشامية الخاصة، وأخضعها لشخصيته الفنيّة التي باتت تملك وسائل تعبيرها المتميزة: لوناً وخطاً وعناصر.‏

التجارب الحروفيّة‏

وتمثلها الأعمال التي أطلق عليها اسم «خطوط» وفيها نقف على صيغتين: الأولى يأخذ فيها الكلمة أو العبارة جاعلاً منها العنصر الرئيس في اللوحة، ومعالجاً إياها برؤية المصوّر وليس الخطاط، ذلك لأن وليد الشامي في الأساس، ليس خطاطاً وإنما مصوراً متمكناً من أدوات تعبيره، الأمر الذي دفعه لمعالجة الخط برؤية المصور، دون أي اهتمام يُذكر، لقواعده أو طرزه أو ما يحمل من دلالة، ما يجعلنا نؤكد أنه خاض هذه التجربة بدافع البحث والتجريب، وإرضاء ذائقة بصريّة متشوقة إلى اللوحة الحروفيّة، وباحثة عنها، وطالبة لها، لا سيما في الوسط الذي يعيش فيه حالياً «دولة الإمارات العربيّة المتحدة».‏

الصيغة الثانيّة، يجمع فيها بين الحرف أو الكلمة، ومعطيات زخرفيّة، وإشارات تشخيصيّة لها أكثر من معنى «السمك، الجواهر، البيوت» لنجد أنفسنا أمام توليفة هي مزيج من التشخيص والتجريد والحروفيّة، خاضعة كلياً هي الأخرى، لرؤية مصوّر يتقن جيداً التعامل مع اللون، واستنباط قيمه الساحرة والجميلة.‏

الصيغة الثانية أفضل كثيراً من الأولى، إن لناحية علاقة الحرف أو الكلمة بالعناصر الأخرى، أو لناحية متانة التكوين، وتوافق مكوناته، وطريقة توزيعها ضمنه.‏

مزاج‏

تحت هذا العنوان، قدم الفنان وليد الشامي مجموعة متميزة من الأعمال الجديدة التي رغم تعمده تحقيق حالة فنيّة تجريديّة حداثيّة فيها، إلا أنه ظل مرتبطاً بهذا الشكل أو ذاك، بالشكل المشخص، والواقعيّة المختزلة، والمفردات والعناصر التي ميزت تجربته. فالمنظر الطبيعي الخلوي ظل موجوداً فيها، وكذلك الإشارات المعماريّة، والعناصر التراثيّة الشعبيّة، والتلميحات لما تختزنه ذاكرته البصريّة، من مشاهد حارات حمص القديمة، وألوان خريف محيطها وريفها الساحرة. كل هذه العناصر والأشياء، أعاد الفنان الشامي تنضيدها، فوق سطح لوحته الجديدة التي اختزل فيها مراحل تجربته الفنيّة كافة، إنما برؤية حداثيّة تعكس بجلاء، موهبته وخبرته وثقافته البصريّة المستمدة من الواقع ومن الإطلاع المتواصل، على ما تفرزه الحركات الفنيّة التشكيليّة المحليّة والعربيّة والعالميّة، ومن تجارب واتجاهات وتقانات، سواء من خلال ارتياده لصالات العرض «وهو صاحب صالة الشامي في حمص» أو إطلاعه على الكتب والمجلات، أو زياراته للمتاحف. فوليد دائم السفر والترحال. أقام طويلاً في العاصمة الفرنسيّة «باريس» وهو منذ سنوات يقيم في دولة الإمارات العربيّة المتحدة، كما أنه دائم المواظبة على الإنتاج والعرض.‏

محرضات ودوافع وخبرة‏

يضاف إلى ما تقدم، أن وليداً كان ولا يزال، مسكوناً بهواجس وأشواق قديمة، حميمية وصادقة ونبيلة، لم تترمد، ولا خف إوارها، رغم مرور زمن طويل وشاق مطعم بالمعاناة عليها، بل على العكس، تزداد يوماً بعد يوم، تمركزاً في محرق أحاسيسه، وخزانة ذاكرته البصريّة، وأسرار روحه، ما يجعلها دائمة الحضور في نسيج لوحته، بأكثر من شكل، وبأكثر من رمز وإشارة. المتابع لتجربة هذا الفنان، والمفاصل العديدة التي تحركت ضمنها أسلوباً ومضموناً، يجد أن صاحبها بقي هو هو: الإنسان الطيب، البسيط، الصادق، النبيل، الغامض، والعميق في آنٍ معاً، وهذا ما ينعكس بوضوح وقوة، في أعماله التي لا تزال، ترد إلى محترف التصوير السوري المعاصر منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم، بحيويّة ونشاط وتجدد، حاضنة خبرات صاحبها المتنامية المستندة على موهبة حقيقيّة، نضجت وتبلورت في محترفات مركز صبحي شعيب للفنون في حمص، ثم في محترفات كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ثم في حقول الإنتاج العملي الميداني في حمص ودمشق وباريس ودبي، وحاضنة في الوقت نفسه أشواقه القديمة _ الجديدة المستوطنة فضاءات روحه، وجدران قلبه، وساحات وعيه، الأمر الذي يجعل من منجزه البصري نسيجاً متآلفاً ومنسجماً من العقل والعاطفة، والدراسة والخبرة، والواقع والخيال، والحزن والفرح، والألم والسعادة، والحضور والغياب، وإلفة الوطن والأهل ودهشة الغربة ومفاجآتها. هذه الغربة المتلونة التي يجترحها ويتغلغل فيها لأكثر من سبب وغاية.‏

تكمن خلف فن وليد الشامي، عواطف إنسانيّة نقيّة وصادقة، وأشواق قديمة، تحولت إلى ذكريات تسكن كيانه. ولأنه في الأساس، مسكون بالفن من رأسه حتى أخمص قدميه، ويعيشه إنتاجاً وسلوكاً يومياً، بات اليوم، يمتلك لغة بصريّة خاصة به، يعجن فيه الواقع بالخيال، ثم يعيد صياغتها وفق الزخم الشعوري الفياض الناتج عن حراك، وتوتر دائمين، يطالان كيانه الفيزيولوجي والروحي في وقت واحد، ولتخليص نفسه من فيض الطاقة هذا، يلجأ إلى السطح الأبيض ليتوازن من خلاله جسداً وروحاً. ونتيجة لتقلب مزاجه، بتقلب توتراته، تتغير بشكل دائم، محمولات هذا السطح، في شكلها ومضمونها وطريقة ترتيبها، وقوة زخمها التعبيري.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية