تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


النقد الأكاديمي بين التّغليب والتغييب

ثقافة
الأربعاء 27-1-2010
عبد الكريم الناعم

بداية أرجو ألا يترك العنوان أي إيحاء سلبي، فأنا لا أقلل من قيمة النقد الأكاديمي الممنهج ، بل هو يرسي دعائم يفترض أن يستفيد منها غير الأكاديميين من الذين يلجون تلك الأبواب ،

وقد نتفق مع هذا المنهج أو هذه الفلسفة وقد نختلف، شريطة قبول الآخر والدفاع عن حريته إلا إذا كانت تهدف إلى إثارة الفتنة، وتجسيد هذا الموقف هو دليل حيوية وحراك إيجابي، غير أن ما يجب التوقف عنده هو تغليب مدرسة بعينها، أو (تسييدها) لأنها في مثل هذه الحالة تصبح الوجه الآخر للزعم بامتلاك الحقيقة، تلك الفكرة التي مازلنا نحصد الكثير من نتائجها السلبية على المستويات كافة ، بدءاً من التشبث بالفكرة التي نتبناها على المستوى الفردي، وصولاً إلى مساحات أوسع وأكثر خطورة في المجالات السياسية ،الاقتصادية ،الاجتماعية.‏

لمزيد من التوضيح نقول إن (الأكاديمية) كمفهوم نقدي قد جرى تغييبها بقصد أو دون قصد لصالح مذهب نقدي بسط سطوته على ساحة النقد العربي منذ قرابة ربع قرن، وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً ،فالأكاديمية تشمل كل المدارس النقدية الأدبية التي عرفناها والتي تعرفنا إليها من مدارس النقد الغربي، من النقد الكلاسيكية إلى الرمزية إلى النقد التاريخي إلى النفسي إلى الأسطوري إلى الجمالي إلى الإيديولوجي، مروراً بالتفريعات التي تشعبت عن كل مذهب من تلك المذاهب النقدية، وهذه كلها تحمل الصفة الأكاديمية لأنها كانت ابنة تلك القاعات طرحاً وتداولاً واتفاقاً واختلافاً وإذا كان بعضها قد مد جناحيه بعيداً في زمن ما فإن هذا لايعني تأبيد هذا الحضور ودليل ذلك هذا التوالد للمدارس التي تلت وهذا علامة من علامات الحيوية، والإضافة، والتجدد.‏

الفكرة الأساس التي أريد التوقف في محطتها هي النقد الأسلوبي الذي يبدو الآن أنه يحتل المساحة الأكبر وهي مدرسة لا أقلل من شأنها ولاشك أنها حفلت بالكثير مما قدمته من أسرار الأسلوب ودلالاته وأبحرت في معطيات اللغة والخلق الأسلوبي فوصلت إلى أماكن لم تكن معروفة من قبل، ولا يلغي هذه الحقيقة أن ثمة من غامر في الإبحار في تلك المياه كالجرجاني وآخرين وكانوا رواداً بامتياز بيد أن الأسلوبية لم تأخذ شكلها المتكامل إلا حيث هي الآن ولا اعتراض في سياق فهم موران الحياة الفكرية ومعطياتها وخاصة أنه مامن مذهب نقدي أدبي دون رؤية فلسفية تشكل القاعدة الفكرية لتلك المدرسة، ولا يغير من هذه الحقيقة أن نكون مع هذه الفلسفة أو ضدها ، وهذا يعني من الجهة الأخرى أنه ليس من المقبول أن يفرض علينا أن نكون معها، وإلا نكون قد عبثنا بفكرة جوهرية من أفكار الحداثة، وما بعد الحداثة وهي احترام حرية أن تكون هنا أو أن تكون هناك، دون التفريط بما قد يزرع ألغاماً مهددة في التشكيلة الاجتماعية التي ليست على ما يرام في وطننا العربي، ولست أعني حماية ما هو قائم، وتقديسه بحكم موروثيته بل الذهاب إلى كل ما من شأنه أن يضعنا على طريق التقدم، والوحدة، والحرية، والعدالة الاجتماعية.‏

قد يكون من النافل أن نذكر أن ثمة حراكاً، نحن مجرد منفعلين فيه، خلاصته أن يجري تكريس (نموذج) ما ليكون معادلاً لفرادنية النموذج الاقتصادي السائد في الغرب/ المركز ولقد استعمل الغرب كل الوسائل الممكنة لتهديم النموذج الاشتراكي في المنظومة الاشتراكية، رافعاً شعارات التعددية والديمقراطية والحرية الفردية على وجه الخصوص فلما بلغ ما يريد، لم يدخر وسيلة لجعل الحياة على ظهر هذا الكوكب على النمط الأمريكي تحديداً وهو نمط غير بعيد جوهرياً عن النمط الأوروبي.‏

إن السعي بوعي أو دون وعي لفرض مدرسة نقدية واحدة يلتقي جوهرياً مع تلك النزعة القائمة على هيمنة الدول الكبرى، وسيطرة حيتان المال، حتى حين تكون ضدها بصدقية عالية من يسعى لبسط هيمنة نقدية معينة ولو لم يكن إلا هذا التناقض لكان كافياً. هنا قد يكون من المهم أن نطرح السؤال التالي :‏

«ترى كيف جرى هذا التسييد» ؟‏

الذي قد نتفق عليه عبر قراءة الواقع النقدي المعني هو أن الأكاديميين الذين يدرسون مادة النقد، أو مدارسه، غلب عليهم أنهم ممن تخصص بدراسة وتدريس الأسلوبية، فكثر عدد الخريجين من الذين وجدوا أن هذه المدرسة قد يستطيع أي ملم بها أن يمارس عملية النقد لأنها لا تحتاج إلى حساسيات نقدية عالية، بل يكفي فيها أن يلم الدارس بمبادئها الأساسية، وعبر هذا يذهب لقراءة أي نص فقراءة المتنبي ومحمود درويش وأي ممّن طبع كتاباً وسماه شعراً .. لن تختلف كثيراً مادام الأمر لا يحتاج إلى رهافات نقدية خاصة، ولا إلى موهبة، ولا إلى قدرة على التخيل والاستبطان وهكذا وجدنا أنفسنا أمام نموذج واحد ولو أننا حذفنا أسماء الذين يكتبون نقداً لصعب علينا أن ننسب الكتابة لصاحبها ، تماماً كما هو الحال في معظم كتابات الشعر السائدة، والمحتفى بها عن غير جدارة، وأنا هنا أفرق بين (التغطيات) الشعرية لبعض المجموعات و.. النقد الذي هو نقد بحق، فتلك تغطيات ( تقريظ) أو تغطيات (تغييظ) ، ومن أسف أنها تجد فسحة كبيرة على أيدي من لا يهمهم كثيراً نواتج مثل هذا (التسويق) ، لأنهم غير معنيين بجدارة هذا أو عدم جدارة تلك لنتساءل لماذا يغيب النقد الثقافي؟‏

إن صورة (المنتج) الواحدة ، المتشابهة، التي تفتقر إلى حضور (الروح) هي الغالبة، وهذا يخرج الأدب من كونه سفراً في تلك الفضاءات العالية الزرقاء، ليضع بين يدي القارئ حفنة من تلك الأحجار الكريمة الغالية، ولست أعني تجميل غير الجميل ، ولا تزييف الواقع بل قد تكون المادة المقدمة حادة كشفرة السكين من حيث الكشف، والإدانة، والتعرية، غير أنها تجيء محمولة على قيم جمالية بديعة، مدهشة، مثيرة، إنها موجة طاغية أعرف أن لها عمراً زمنياً سوف تغيب بعده، ولكن بعد أن تكون قد تركت آثارها في إقصاء غيرها، وفي (تنشيف) الروح، وفي حجب الجمال الذي هو من أغلى موجودات هذا الكون .‏

أعتقد أن هذه الموجة ستمتد حتى تنتهي (موضتها) في المركز الأوروبي الأمريكي الفاعل الآن ، فمن أسف أننا سرعان ما نجري إلى كل ما يصدر من تلك المواقع المشغولة بنفسها داخلياً، لا بقضايا الإنسان ولا بالكيف الذي يجعله يتفتح ويرفع عنه البؤس والقمع، والاستغلال من خلال صون كرامته والدفاع عنها حيث كانت لا أن تقتصر على أبناء (القبيلة) ، أو المعتقد، أو (المنظمة) القائمة أو المفترضة.‏

ثمة شيء ما قد يكون ابن التخطيط أو ابن الفوضى المطلوبة والتي علينا أن نقبل أنها فوضى (خلاقة) الذين يقفون وراء هذا الشيء يسعون لـ(قبلنة) العالم، بمعنى القبيلة السلبي لا بالمعنى الإيجابي الذي يعتبر القبيلة حلقة من حلقات التشكل الاجتماعي المتآزرة الباحثة عن الأنقى والأجمل والذي من خلاله يحقق الإنسان معنى إنسانيته..‏

AL- NAEM@ GAWAB.COM‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية