تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


دليل الهاتف

ساخرة
الخميس 21-1-2010م
معتصم دالاتي

حين عاد بعد أكثر من ربع قرن إلى وطنه سورية فاجأه ما لاحظ من تغيير في مدينته،وأهلها وفي أسرته فاجأته الشوارع والأبنية والساحات ووسائط النقل المتوفرة

سواء السرافيس التي تغطي كل أحياء المدينة، أم البولمانات المتعددة شركاتها وأصحابها والتي تغطي شبكة المدن السورية، ولكم كان يعاني سابقاً صعوبة السفر بين مدينته ومدينة أخرى بواسطة الكرنك أوسيارات التكسي، كما لاحظ أن السوق لا يلزمه أي شيء وكل شيء متوفر بدءاً من علب المحارم وعلب السمنة والزيت والسكر وباقي المواد التموينية، ناهيك عن الكهرباء التي لم تعد تعرف الانقطاع ولكم عانى هو وغيره من تلك الأزمات قبل سفره وهو الآن حين يسأل أحداً من أهله عن أي من تلك ويأتيه الجواب بتوفرها مع الإفاضة بالشرح، كان يهز رأسه طرباً ويرد: ما شاء الله.. ما شاء الله، لكن أكثر مفاجأة له هو ما حصل من مستجدات في أسرته وفي محيطه فهذه أخته التي تركها ابنة عشر سنوات غدت حبيبة وأماً لثلاث بنات مثل القمر وابنة أخيه التي تركها في المدرسة الابتدائية وهي تلثغ بالكلام ولا تقول جملة مفيدة هي الآن طبيبة أسنان لها عيادتها وتتحدث بلغة سليمة وتقرأ كتباً أجنبية، فردد: ما شاء الله.. ما شاء الله، أما أخته التي تركها مخطوبة وهي في صف البكالوريا فقد أصبح لها رهط من الأولاد اثنان منهم في الجامعة ما شاء الله ..ما شاء الله وابن الجيران الصغير أبو مخطة فقد اختفت مخطته وهو الآن يعمل بالتعهدات الكبيرة ويملك مكتباً أنيقاً تحت إمرته مجموعة من مهندسين وموظفات وكمبيوتر يتصل بشبكة الانترنت ويتلقى رسائله بالإميل، بالإضافة إلى سيارة مرسيدس وزوجة جميلة أنيقة ويتحدث بملايين الليرات والدولارات ماشاء الله .. ما شاء الله، أما ابنة الجيران الصبية الجميلة الدلوعة ذات السبعة عشر ربيعاً والطالبة في صف الحادي عشر والتي كانت تلبس بنطال جينز وبلوزة بدون أكمام ويحبها كل شبان الحارة دون أن تحب أياً منهم مع أنها كانت تبتسم للجميع وتتحدث للجميع، فهي الآن تضع على رأسها الحجاب الشرعي وتلبس المانطو في عز دين الصيف، وتمتنع عن مصافحة الذكور، ويدعونها الحاجة سوسن بعد أن كانوا يدلعونها بسوسو .‏

يا سبحان الله كم من أشياء تغيرت في المدينة والأسرة والجيران؟‏

حين سافر منذ أكثر من ربع قرن إلى إحدى دول الغرب بعد البكالوريا كان يقول لأمه: أربع أو خمس سنوات تمضي بغمضة عين غير أنه تابع الدراسات العليا ثم تزوج زميلته وأنجب منها وحصل على عمل وراتب لا يحلم بمثلهما في وطنه فاستقر هناك، وفي كل مرة ينوي زيارة بلده وأهله كانت تعاكسه الظروف.‏

بعد عودته الحافلة بالضيوف والمهنئين خطر له مرة أن يتصل هاتفياً بأحد أصدقائه فتح دليل الهاتف وحين عثر على الاسم كبس على أزرار الرقم لكنه لم يسمع صوت الرنين أعاد الكرة مرات عدة دون جدوى.‏

فانتقل إلى رقم آخر، وآخر دون أن يستجيب الرنين فنبهته أخته إلى إضافة عددين آخرين على الرقم المدون في الدليل، لأن البلدة قد توسعت وتضاعف عدد مشتركي الهاتف الأرضي، ما جعل الرقم يصبح سبعة أعداد بدلاً من خمسة حاول أيضاً فاستجاب الرنين غير أن الرقم كان خاطئاً والكثير من الاتصالات أيضاً كانت خاطئة أغلق دليل الهاتف فوقعت عيناه على الغلاف الذي يشير إلى أنه إصدار عام 1985 طلب من أخته دليل الهاتف الجديد أجابته إن هذا آخر دليل هاتف أصدرته المؤسسة.‏

رمى بدليل الهاتف جانباً وكظم الغيظ وقال بنرفزة واضحة كل شيء تغير في البلد إلا هذا الدليل.‏

وقبل أن تفلت منه أي عبارة غير لائقة قال وهو مازال يكظم غيظه : لا حول ولا قوة إلا بالله بدلاً من عبارته المعتادة ما شاء الله ما شاء الله ولعله لو كان بحالة رواق بدلاً من النرفزة لنظر إلى الدليل ثم إلى أهله وقال بلهجة ساخرة: دليل هاتف من القرن الماضي وبعده عايش ؟!ما شاء الله.. ما شاء الله.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية