تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عودة حمى الامبراطوريات

إضاءات
الاثنين 16-12-2019
د. خلف علي المفتاح

ما تشهده المنطقة العربية من تدخلات خارجية بشكل فج ومباشر يشير بشكل واضح إلى عودة حمى الاستعمار إلى الواجهة في حسابات مطابخ الغرب وغيره من امبراطوريات أفلت واعتقدنا أنها أصبحت في ذمة التاريخ ومن المنسيات فها هو الأميركي يسعى لنصب خيامه العسكرية وسط بلداننا العربية،

وكذلك التركي العثماني يقف منذ بداية الأحداث في سورية إلى جانب ما سمي المعارضة ويمثلها في اجتماعات آستنة ويقدم لها وللتنظيمات الإرهابية كل أسباب الدعم السياسي واللوجستي ويسعى لتسويقها إقليمياً ودولياً وإظهارها حالة منسجمة وحاملة لمشروع سياسي على أمل أن يمنحها ذلك شرعية تفتقدها أو إطاراً تساوم عليه وتتحرك من خلاله ولا سيما في اجتماعات لجنة مناقشة الدستور في جنيف هذا الموقف السلبي والذي تحكمه اعتبارات ونزعات عدة ويرتكز إلى معطيات خاطئة ويعكس قصر نظر راسمي الاستراتيجية السياسية التركية في مقاربتهم للأزمة في سورية بمعطياتها وعناصرها الذاتية وأسبابها لا تشبه غيرها قياساً على ما جرت عليه الأمور في كل من مصر وتونس وليبيا، فالبنية السياسية السورية بحواملها الاجتماعية والاقتصادية وهويتها وخطابها واستطالاتها الإقليمية والدولية يعطيها تفرداً وخصوصية وتأثيراً عابراً للحدود الجغرافية ما يجعل من أي محاولة لخلط الأوراق فيها أو عبث بمكوناتها ارتدادات وانعكاسات على دول الجوار قد تتجاوز في نتائجها وتكلفتها البشرية والسياسية ما يحصل في نقطة المركز قياساً على التشابه والترابط والتداخل في البنية الثقافية للإقليم وإحساس أكثرية مكوناته واستشعارها وفلسفتها لطبيعة وأبعاد الاستهداف وخاصة أن الذاكرة الجماعية لأبناء المنطقة تستحضر بعض الصورة السلبية في علاقة العرب والأتراك على خلفية الإمبراطورية العثمانية.‏

الخطأ الاستراتيجي الآخر الذي وقع به الساسة الأتراك هو سوء تقديرهم لقوة وتماسك الداخل السوري وطبيعة النظام السياسي ومستوى وعمق تحالفاته الإقليمية والدولية ودرجة تركزه ومحوريته في الخريطة السياسية الإقليمية والدولية وسقف المناورة لديه في لعبة توازن الخسائر والأرباح عندما يتعلق الأمر بحسابات القوى الكبرى ورسم خرائط المستقبل وهو ما يفسر درجة ثبات الموقفين الروسي والصيني وارتباط ذلك بمحيطهم الاستراتيجي وتهديد أمنهم القومي.‏

خطيئة أخرى وقع فيها الساسة الأتراك وما زالوا -وهم الذين يفترض معرفتهم العميقة بها- وتتمثل بطبيعة التفكير السياسي لدى القيادة السياسية السورية ونخبها الوطنية وطريقة وأسلوب ولغة التعاطي معها وخاصة في الأزمات حيث يدرك القاصي والداني أنها ترفض لغة التهديد والوعيد والإملاءات التي تأنفها ثقافة السوريين الذين يتميزون بدرجة عالية من الإحساس بالكرامة الوطنية والثقة والاعتزاز بالنفس إلى درجة أن قاموسهم الوطني لا يأبه بأي ثمن يمكن أن يدفعه مقابل دفاعه عن تلك المنظومة الأخلاقية المتجذرة في سلوكهم العام، إضافة إلى استخدام لغة الخداع في الحديث عما يسمي المنطقة الآمنة في الشمال الشرقي التي هي في حقيقتها احتلال وعدوان موصوف على سيادة الدولة السورية وحرمة أراضيها ووحدة شعبها.‏

إن مرور تسع سنوات على الأزمة في سورية يرتب على المنخرطين في تضاريسها من قوى خارجية ضرورة إجراء مراجعة شاملة ونقدية لمواقفهم فلا لغة الحصار الاقتصادي أو السياسي أو التحريض الإعلامي أو استخدام القوة والتلويح بها أدت إلى أي نتيجة أو هدف سعوا لتحقيقه فالنظام السياسي ما زال يمارس خياراته وقراراته الاستراتيجية من معطى القوة الداخلية والترابط العضوي لمكوناته ما مكنه من القول لا ونعم، ولا لأي مبادرات تتعلق باجتراح حلول سياسية للأزمة، ناهيك عن قدرته على تحريك منظومته الاستراتيجية الإقليمية والدولية واستشعارها الخطر الذي يستهدفها في إطار التنافس بين المشاريع الإقليمية والدولية على المنطقة التي أريد للأزمة في سورية أن تكون غطاء لها.‏

لقد انخرط الساسة الأتراك في لعبة دولية كبرى استهدفت المنطقة بكاملها اعتقدوا أنهم سيخرجون بحصيلة تصب في صالح تركيا أو تحقيق أجندات اشتغلوا عليها دون أن يدركوا انعكاساتها وتداعياتها على الأمن القومي التركي وهذا ما هو حاصل اليوم حيث استشعر الأتراك ولا سيما بعض أحزاب المعارضة وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري أن أمن البلدين مترابط وكذلك مصالحهما وإذا كان من فضيلة لطول أمد الأزمة فإنها تتمثل في وعي هذه الحقيقة أي أن سورية هي قاعدة النظام الإقليمي ونقطة ارتكازه وقوتها واستقراها هو مصلحة بل ضرورة لدول الإقليم جميعها وفي مقدمتها تركيا.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية