تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأزمة الصومالية بعيون بريطانية !

شؤون سياسية
الأربعاء 14-3-2012
إدريس عبد الله قرجاج 

مما لا شك فيه أن الأزمة الصومالية غدت أزمة منسية لطول أمدها على الرغم من أنها تندرج في إطار الأزمات الأشد خطورة والأكثر إلحاحاً على المجتمع الدولي وخاصة العربي والإسلامي،

حيث لا يمكن حلها إلا إذا تضافرت الجهود لمواجهتها لأن قضايا الأمن الإنساني وثيقة الصلة بالقواسم العالمية المشتركة الداعية والحريصة على أن يسود الأمن والاستقرار دول العالم أجمع دون استثناء، ولكن الجهود غائبة والقصور الدولي تجاه الأزمة الصومالية بين ولا يحتاج إلى إثبات وإن وجد فهو محكوم بأجندات خفية تسوقها المصالح الاستراتيجية للدول الاستعمارية الكبرى، وليس أدل على ذلك من الدعوة التي وجهتها الحكومة البريطانية في 23/شباط/2012م لعقد مؤتمر دولي يضم جميع الفرقاء الصوماليين باستثناء حركة الشباب المجاهدين بالإضافة إلى 40 ممثلاً لدول وهيئات عالمية مختلفة والهدف من عقده بحث السبل الممكنة للخروج بحلول مناسبة للأزمة التي يعيشها الصومال منذ عقدين.‏

ويتساءل مراقبون ومحللون صوماليون عن ماهية الدوافع التي حركت الحكومة البريطانية للبحث في الأزمة الصومالية في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا كل هذا الحرص الذي بدا على محيا الحكومة البريطانية فجأة لتطالب بضرورة حل الأزمة الصومالية الآن؟‏

أم إنها تحركت على خلفية نوازعها الاستعمارية القديمة تجاه الصومال، وللإجابة على هكذا تساؤلات لابد من استعراض آراء الصوماليين أنفسهم قبل غيرهم وخاصة إزاء البنود الأساسية التي تناولها المؤتمر وهي «الأمن، العملية السياسية، محاربة الإرهاب، القرصنة، المساعدات الإنسانية».‏

وجميع هذه البنود في جوهرها تمثل العناوين الرئيسية اللازمة الصومالية ولكن هناك ثمة مخاوف حقيقية لدى بعض المثقفين الصوماليين الذين يرون أن الدعوة البريطانية لا تخلو من أجندات خفية تهدف إلى إدخال الصومال في انتداب جديد أو تحويله إلى محمية تخضع لرعاية الأمم المتحدة ممثلة من القوات الإفريقية التي زاد عدد أفرادها قبيل المؤتمر من 12 ألفاً إلى 18 ألفاً من أجل تعزيز وجودها، وبالمقابل يرى آخرون أن انعقاد المؤتمر في لندن تحت الرعاية الرسمية للحكومة البريطانية وبحضور أميركا والدول الأوربية يشكل فرصة مهمة تسنح لجميع الأطراف الصومالية لأول مرة لذا يجب استغلالها واستثمارها لمصلحة الشعب الصومالي الذي تكالبت عليه المحن والكوارث الإنسانية وهو يواجه مصيره لوحده طوال هذه المدة الطويلة.‏

وبين الرؤيتين هناك رأي ثالث يعتقد أن مؤتمر لندن خدعة غربية - أميركية جديدة تسلمت بريطانيا زمام المبادرة لعقده ورعايته وقيادته ليس من باب تحقيق الأمن وإطلاق عملية سياسية واسعة ترسم الملامح الأولية لانتشال الشعب الصومالي من براثن المجاعة والتخلف وتمكينه من إدارة شؤون بلاده بمفرده وبناء مؤسساته المدمرة ... وما إلى ذلك من مسوغات إنسانية وسياسية واقتصادية وأمنية، ولكن الحديث عن هذه المواضيع فيه كثير من الاستخفاف بالعقل الصومالي الذي لا يزال يستحضر عبر ذاكرته الحية ذلك الماضي الاستعماري لبريطانيا وكذلك مآسي الحروب الأهلية التي تسبب فيها أمراء الحرب الذين وجدوا الدعم من الدول الغربية وأميركا وبعض دول الجوار الإقليمي انسجاماً مع أجندتهم الخاصة إلى جانب ملمات الكوارث الطبيعية من جفاف وتصحر على نحو عشرين عاماً ونيف والتي تشكل في مجملها وصمة عار للعالم المتحضر الذي تنتمي إليه بريطانيا والذي كان غائباً تماماً وغير مبالٍ وغير مكترث بما يجري في الصومال حتى الأمس القريب.‏

ولجميع هذه الآراء ما يبررها ولكن ما هو سر الاهتمام المفاجئ للحكومة البريطانية بالأزمة الصومالية لدرجة أن رئيس الوزراء «كاميرون» يعلن أمام المؤتمرين أن حكومته رصدت 35 مليون دولار لمساعدة الصومال في المجال الإنساني الأمر الذي يدعو إلى التعمق في التحليل حيث إن التحرك البريطاني لا يمكن أن يخرج عما هو مرسوم ضمن الاستراتيجية الجديدة لبريطانيا من أجل استعادة نفوذها في الصومال والاستفادة من ثرواته وموارده الطبيعية وموقعه الجيوستراتيجي المطل على المحيط الهندي وبحر العرب وباب المندب عند البحر الأحمر وانسجاماً مع تلك الاستراتيجية أرسلت بريطانيا بعضاً من قطعها البحرية المنتشرة قبالة الساحل الصومالي كما أنها بعثت بخبراء للتنقيب عن النفط في الأراضي الصومالية بشكل سري وهذا ما أكدته صحيفة الغارديان البريطانية خلال الأيام الماضية وأن مؤتمر لندن قصد منه تمرير موضوع الوجود البريطاني في الصومال.‏

ومن هنا يتضح لنا أن الاهتمام البريطاني المغلف بدعاوى إنسانية يخفي في حقيقته مخططاً تتشارك فيه بريطانيا مع حلفائها الأميركان من أجل رسم خارطة جيوسياسية جديدة للصومال الذي أصبح محاطاً من كل الاتجاهات بالقواعد الأميركية الموجودة في كينيا عند خليج «ماندا» الذي يبعد 50 ميلاً بحرياً عن الحدود الصومالية بالإضافة إلى قاعدة «ليمونيية» في جيبوتي التي يوجد بها ثلاثة آلاف جندي أميركي، وبالتالي ما هو مسكوت عنه هو أن بريطانيا وضعت ثلاثة سيناريوهات حان وقت تنفيذها - الأول - يقضي أن يتم تقسيم الصومال إلى ثلاثة أقاليم تشكل نظام حكم فيدرالي يكون رئيس البلاد من الجنوب ورئيس الوزراء من الشمال خاصة بعد أن فشل سكان الشمال الذين أعلنوا دولة مستقلة في عام 1990م بما عرف بجمهورية أرض الصومال التي لم يعترف بها المجتمع الدولي.‏

وأما السيناريو الثاني أن يخضع الصومال لوصاية أممية لفترة انتقالية حتى يتم ترتيب البيت الصومالي على نحو يرضي جميع الأطراف الصومالية.‏

وأما السيناريو الثالث وهو الأسوأ أن يتم تقسيم الصومال إلى ثلاث دويلات صغيرة يسهل التحكم في مصيرها ومستقبلها، كما حدث في السودان الذي تم تقسيمه لدولتين بفعل سياسات بريطانية قديمة نجحت أميركا في تنفيذها.‏

إذاً كل ما يمكن قوله وباختصار إن التحرك البريطاني تجاه الصومال يعتمد وبالمطلق على أن الأقوياء وحدهم المسموح لهم بالسيطرة على الدول الأكثر ضعفاً واستغلالها إلى أقصى حد ممكن مستفيدة من الهوة الواسعة بين بريطانيا كدولة صناعية والصومال كدولة نامية تبدأ من الصفر فقدت الأمل في دول النفط العربي بتقديم المعونات المالية حتى تتمكن من تحقيق وجودها.‏

ومن جانب آخر لا يختلف الصوماليون في نظرتهم بخصوص مناقشة الأسباب الموضوعية لظاهرة القرصنة ومكافحة الإرهاب والأمن ولكن أن يأتي بحث هذه المواضيع من بريطانيا بعد عقدين فإنها صحوة متأخرة تبعث على التفكر وفي نفس الوقت مدعاة للاستغراب خاصة أن بريطانيا وأمريكا يحولان دون استيراد السلاح للصومال ووقوفهما حجر عثرة أمام مطلب الرئيس الصومالي شيخ شريف من مجلس الأمن بضرورة فك الحظر من أجل تسليح قوات الأمن والجيش الصومالي لمواجهة كافة المخاطر التي يتعرض لها الصومال أرضاً وشعباً.‏

وفي كل الأحوال فإن تدخل بريطانيا في الأزمة الصومالية على النحو الذي لا يلبي رغبات وآمال الصوماليين في الخروج من الأزمة بسلام سوف تكون نتائجه عكسية لبريطانيا مثلما كان الحال لأمريكا عندما خرجت من الصومال مدحورة مهزومة.‏

 كاتب سوداني‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية