|
كتب والفرق بين الماء الذي يجد مستقره في ماء البحر والماء الذي لا يجد هو ذاته بين الذي يجوز الصراط الذي يستدق حتى يصبح كالشعرة وبين الذي يهوي, فتتلقفه النيران وفي الحالتين هما أرض خصبة للرواية. ليست الرواية في الحالتين ماءً صالحاً للشرب قبل عمليات التقطير التي يقوم بها الكاتب وبين كاتب يستسهل الطريق بالأمبيق وكاتب يتمثل الحالة الطبيعية بأن يترك لسرده أن يتبخر ويتحول لغيم ويتكاثف ليسقط مطراً يجري أنهاراً ويتفجر ماء فراتاً يتفاضل الروائيون. أمطار سوداء هي رواية تتمثل الحالة الطبيعية, فلقد تتبع الكاتب ماء سرده من لحظة التبخر إلى لحظة الهطول والتفجر ماء عذباً. تبدأ الرواية على لسان ساردها أي نحن أمام ضمير المتكلم وهذا يظلّ قائماً حتى اللحظة الأخيرة فيها وكأن الكاتب يتهكم من مقولة دارجة هذه الأيام تعلقها الكتابة على متاجرها: بأنّ ما تتضمنه الكتابة لا يعبر عنها بل عن وجهة نظر كاتبها!؟. في ساحة مدينة غير معينة يجتمع شاب مع عجوز أمام كشك لبيع الصحف وفجأة تشتعل الأرض من حولهما رصاصاً وانفجارات وهنا تبدأ رحلة الهروب حيث قادهما الواقع إلى أن يصبحا متهمين من قبل الجهتين المتصارعتين الدولة والثوار وعبر هذا الهروب الذي يقوده الشيخ الذي أظهر خبرة حامتْ حولها إشارات استفهام كبيرة من الشاب تأخذ بالتوضّح بالتدريج ليزول الوهم المتصور عن الذي يحدث وكأننا أمام المثل المذكور سابقاً بين أسلوب الأمبيق لتقطير الماء والحالة الطبيعية. العجوز الذي عركته الحياة لا تخدعه الظواهر بل يغوص إلى الأعماق باحثاً عن الأسباب الحقيقة ومظهراً حجم الخديعة والشاب الذي يريد النتائج سريعاً دون تمحيص تتغير حالته ليصبح أكثر قدرة على الغوص. يستمر الهروب ليلتقوا بقناص أراد تمضية بعض الوقت قبل أن يقتلهما ودبابة تثير جحيماَ من غبار ونار وأبنية كالهياكل العظمية غادرتها أرواحها وصولاً لمدينة الصفيح وحالها ناسها الذين قد أكلهم الصدأ مروراً بوديان وخنادق ومدينة أُنشئت للأجانب فلا تقربها الحرب المستعرة وكأنّ كلّ طرف يعرف مقدار المصالح المترتبة له مع رعايا سكانها في حال انتصاره إلى أن تنتهي رحلتهم بمدينة « نفوسة» والجلوس مع الحج سالم وإعدامهما معاً وهما يضحكان. القطرات الشاب اسمه أمين كذلك الشيخ اسمه أمين. إنهما مرآتان أو جيلان. الشيخ عمره أكبر من عمر الدولة بشكلها الحديث والشاب عمره أصغر من عمر الدولة وأنظمة حكمها. الشيخ يملك عدة نظرات وزوايا لقراءة التاريخ والواقع الشاب لا يملك إلا نظرة واحدة. اللقاء بينهما هو الذي يشعل الجدل في الرواية ويجعل الهروب قراءة في واقع الحال الذي آلت إليه تلك الثورات التي انطلقت في الوطن العربي. لا تقع الجدلية التي تكلمنا عنها في الانقسام الحاصل بين دولة وثورة بل تذهب أعمق وأعمق لتقرأ اللحظات عبر حبالها المعلقة بالغيم والمتصلة بالأرض للكشف عن اللعب الخفي الذي يتم لتهديم الدولة وتفتيت الحراك وفي النهاية قطف النتائج لصالح تلك اليد الخفية التي تلعب بالجميع ضد الجميع وعندما يحدث أن الحقيقة سيماط عنها اللثام يتم قتل الحج صالح واقتياد كل من الشيخ والشاب لملعب وإعدامهما. النهاية التي يغلفها الضحك المجنون الذي أطلقه الشيخ والشاب مع أصوات الرصاص والاعتراف الأخير الذي أجلته الأحداث بأن يخبرنا الشاب باسمه أو يخبر العجوز أمين بأن اسمه أيضا أمين, لا يصل لإذن الشيخ التي سدّها صوت الرصاص, هكذا توضح الرواية حجم الانقطاع بين الجيلين وحجم المأساة التي أنهت الماضي الممثل بالشيخ والحاضر الممثل بالشاب وتركت المستقبل لصوت الرصاص. رغم أن الكاتب قد وطّد روايته في مكان غير معين عبر أسماء لمدن وهمية إلا أنّ التفاصيل التي أُدرجت تشي بأنّه يتناول فيها بلده اليمن ورمزيته هنا جاءت كما الضحك الذي تحدى الرصاص في نهاية الرواية, إذ يسخر من تلك الشعارات التي حملها هذا الحراك والذي ركبه أشد الناس وصولية ويتهكم من النتائج المريرة التي تغض عنها الأبصار بأن المجتمع قد تفكك لصالح عصابات مرتهنة للمال واليد الخفية التي تحرك كل نار هذا الجحيم, فالرواية تقدم الوجه الآخر للقمر ولكنّها لا تغفل أبداً وجهه الذي يواجه فيه الكرة الأرضية. سرد سلس ورشيق رغم أنّ الروائي بدر أحمد حمّل سرده الكثير من الرؤية السياسة وهذه الرؤية لا بد أن تثقل السرد إلا أنه استطاع التخلص من ذلك بأن جعل التفاصيل التي مرّ بها البطلان هي الحامل, فكانت الغير مباشرة في الطرح تجعل السرد رشيقاً وسلساً يتنقل من فكرة لأخرى عبر لغة تتعاشق مع معانيها لتظهرها بأحسن حال. رواية ممتعة تعاكس السائد من الطرح الروائي الذي يستعمل أسلوب الأمبيق في مقاربة الراهن الحالي للوضع العربي. تستحق القراءة والتوقف طويلاً معها وقد قدّم لها الناقد المغربي حميد ركاطة. أمطار سوداء للكاتب اليمني بدر أحمد صادرة عن دار الوطن – المغرب لعام 2012 |
|