|
ثقافة فالعنوان علامة سيميائية لابد من ان يرتبط دالها بمدلولها, فالدال: مقاربات, والعلامة: مقاربة اصطلاح جديد في داله ومدلوله, وهو اصطلاح لانه يحدد جنساً جديداً في الكتابة, وخصوصاً الكتابة الصحافية يختلف عن الزاوية والمقالة, ويلتقي معهما في امور ويختلف في كثير منها. فهو يلتقي مع الزاوية في حجمها ويختلف عنها في ان الزاوية ملءٌ جميل ابداعي لمساحة من الجريدة, والزاوية تنداح حيث شاءت وجدانياً في تداعيات أو مفارقات أو هجاء أو سخرية,و كثيراً ماتتحول في صحافتنا الى استهلاك للكلام. اما المقاربة فهي كلام هادىء, بعيد عن التداعيات والذاتية التي تجر في كثير من الاحيان الى التعصب والتحيز والتخرب, كلام هادىء أي انه غير متوتر; هدوء يرفع نحو الحوار ويفتح نوافذ للتفاؤل, يحاور ولايصدر احكاماً مطلقة; هادىء لانه كلام ممنهج بسيط وشائق لكنه يثير اسئلته, والمقاربة ليست مقالة, فالمقالة بحث, والمقاربة بحث بمعنى آخر, بحث ذو طابع معين, بحث لايقوم على الاسهاب, بل على التكثيف واللمح. المقالة تعتمد التفصيل والتوثيق, اما المقاربة فتتسم بمحدودية الموضوع, وهذه المحدودية تعني تناول فكرة, فكرة واحدة, أو جانب صغير من موضوع كبير, تقاربهُ مقاربةً, أي تتناوله تناولاً مركزاً كثيفاً.. وتختلف عن المقالة أيضاً في ان المقالة قد تكون نصاً مغلقاً وقد تكون نصاً مفتوحاً, إلا ان المقاربة اكثر انفتاحاً, لان هدفها الاول والاخير إثارة تساؤل, أي توليد أسئلة تفتح حواراً من دون ان تقدم اجوبة, فليس هدفها إيجاد الحلول بل إثارة الحوار و التساؤلات, وبهذا فإن المقاربة لااجوبة لديها, لأنها تثير حواراً مع آخر له حق الاختلاف معها, وهي تقر له بهذا الحق سلفاً ليكون هذا الحق مقدمة يقوم عليها الحوار.وللمقاربة وظيفة اخرى هي توسيع حقل المشاركة المفترضة في الحوار ليشمل عقولاً واقلاماً من مشارب متنوعة وتيارات مختلفة على قاعدة البحث عن الحقيقة, فالمقدمة الاولى التي تنطلق منها المقاربة هي أن الحقيقة ليست حكراً على أحد, لا على تيار ولاحزب ولا سلطة ولافرد.. فأول ماتنأى المقاربة به عن نفسها ادعاء امتلاك الحقيقة ونفي الآخر والتعامل معه من منطلق التناحر والرفض. وهكذا جاءت مقاربات عطية مسوح لتثير مسائل راهنة, تقاربها ولاتبت بها, أهمها: خلق اسلوب للحوار الديمقراطي, والبحث عن نقاط تواصل مع الاخر, والإقرار بموضوعية التنوع والاختلاف والتناقض, واحترام الرأي المختلف وصون حق صاحبه في التعبير عنه, وهي مسائل ترتبط بأمور ثلاثة, أولها: البناء العقلي للانسان العربي, وثانيها:حرية الرأي والتفكير وثالثها: رأسها أو عمودها الفقري- مسألة الديمقراطية . اما الهدف من هذه المقدمات كلها فهو البحث في مشكلات الاصلاح على مختلف الصعد. لنعد الى الغرض الاول من المقاربة وهي إثارة الاسئلة.فأية اسئلة تثيرها مقاربات عطية مسوح ? إن إثارة الحوار تتطلب أولاً ان تتحدد الارضية, أي الفهم, أو حد المفهوم, الذي تنطلق منه ليكون نقطة البدء في الحوار مع الآخر, ومثل هذا التحديد لايعني مصادرة, ولايعني أنه الحقيقة المطلقة, إنه أول الطريق نحو الحقيقة, ليمتد الطريق بعدها طويلاً, وهكذا فإن المسألة الاولى الرئيسة في المقاربات كانت مسألة الرأي والرأي الآخر, وقد قدم لها عطية مسوح بسؤال: ما المعايير التي يتميز بها الرأي من الكلام الساذج أو المسف? وهل كل من يكرر اقوال الآخرين او يكتب شيئاً سيعد صاحب رأي? ثم يحدد مسوح مقدمته التي تقول: لكي يكون الكلام رأياً ينبغي ان يحمل جديداً محدداً ومعللاً, أي أن يستند إلى المتابعة والتبصر. ويناقش مسوح مسألة تكون الرأي ليشير إلى أن هذا يستند الى تقابل ثنائي:( الشك/ اليقين« فالشك منهج معرفي هو نقيض اليقين الذي يقوم على التسليم, ونقطة البدء في القراءة الموضوعية للواقع وظاهراته من أجل فهمه,وتغيره لابد ان تبدأ من الشك في مقابل النزعة التسليمية التي تقوم على التلقين المرتبط بقبول تام وإيمان يستند الى الدفاع الاعمى عن هذا التسليم, و التسليم ثوابته كثيرة ومنطلقاته المبدئية لاتتبدل, لذا فهو أقوى لواجم التطور والنهوض. اما الرأي فثوابته اقل, ومتغيراته اكثر. والرأي لايقوم على الواحدية ولا على الوجدانية ولا على الاحادية( فالواحدية مفهوم ناسوتي يرتبط بالفردانة والوحدانية مفهوم لاهوتي يرتبط بالالوهية, والاحادي مفهوم عسكري يرتبط بأرتالٍ من الآحاد..) ولذا فإن الرأي يرتبط بموضوعية الخطأ, وطبيعة الموقف من الخطأ, وعدم الركون الى الواقع والتسليم به والسعي الى مناقشة اخطاء الذات واتخاذ موقف منها. الرأي يقوم على الشك,و الشك نقيض اليقينية, واليقينية مرض فيروسي, فيروسه الجمود الفكري ينظر الى الاخر على انه خصم ويصل مسوح الى تحديد مقدمته: كل رأي( او كل فكر) يكون اكثر قابلية للحياة كلما كانت ثوابته اقل ومتغيراته اكثر. فاليقينية قرين الواحدية, تقوم على علاقة تعاكس مع الاخر, وانواعها عدة :واحدية معرفية, وواحدية ثقافية, وواحدية مصادر المعلومات.. الواحديون والوحدانيون لايفرقون بين الانتماء والتعصب, فهم حملة ايديولوجيات يحولونها الى مقدسات. والايديولوجيا تقابل الثقافة, كما يتقابل الانغلاق والانفتاح, ومن هذه التقابلات الضدية, الثنائية تنتج ثلاثة مواقف من الرأي الآخر: -عدم الاقرار بحق الآخر في التعبير عن رأيه وسحق هذا الرأي إن ظهر, وهو موقف واحدي( وحداني أحادي) اي انه موقف قمعي يرتبط بالانظمة الشمولية,لكن المأساة في ان المحكومين بتلك الانظمة الشمولية كانوا يمارسونه فيما بينهم( في احزابهم وايديولوجياتهم). -الموقف الثاني: الإقرار بشرعية وجود الآخر, ويقوم على تقابل :الحاكم/ المعارض. -الموقف الثالث والاهم: عدم الا قتصار على احترام حق الآخر في التعبير عن رأيه, بل احترام رأيه ذاته كمنطلق منهجي في الحوار, وهو موقف يتسم بدرجة عالية من التحضر والمرونة والموضوعية, لانه يقوم على احترام الرأي الآخر والتعامل الايجابي معه لاحترام حق صاحبه في التعبير عنه. المسألة الثانية في المقاربات هي مسألة الاصولية, وتبدأ بإثارة سؤالها: هل الاصولية اتهام? وبدل ان يقدم مسوح اجابة جاهزة ناجزة يناقش اللفظ- العلامة مناقشة لغوية, فالاصول هي الأسس التي تقوم عليها الاشياء, وقد نادى العرب بأصالة الرأي فقالوا: أصالة الرأي صانتني من الخطل وحِلية العقلِ زانتني لدى العطلِ ولذا فإن الاصولية ليست تهمة وليست صفة سلبية مادامت نسبة الى اصول, لكن المشكلة ان النسبة الى اصول ولدت اصوليات عدة, اشهرها الاصولية التي تقوم على يقينيات/ ثوابت تبحث عنها في الماضي لتجعل منها حلولاً للمشكلات الواقعية المعاصرة, وثانيها اصولية تقوم على تقديس الايديولوجيا والانشداد الى صيغ وشعارات واستنطاقها اجوبة عن اسئلة الواقع, وهو موقف اصولي جامد لانه ايديولوجي, وهو موقف رجعي لانه ماضوي, وهو موقف مثالي لانه ليس من انتاج الواقع الحي المتبدل, وهو موقف قاصر لانه لايستنبط الاصلاح من قلب المشكلات الواقعية. المسألة الثالثة تقوم على إثارة تساؤلات عدة اهمها: لماذا لم تتجذر حركة النهضة العربية التي قادها اعلامها مثل محمد عبده والافغاني وشبلي شميل وسلامة موسى.. والكواكبي.. والتي سعت اول ما سعت-في القرنين الماضيين- الى التركيز على مسألتي الحرية والديمقراطية وزج اوساط واسعة من الناس- الجماهير الشعبية في التعبير السياسي المعاصر- في غمرة العمل السياسي بعد ان كانت مبعدة ومهمشة قروناً,والاسهام في تكوين وعي شعبي جديد, فيه ملامح واضحة للديمقراطية والعقلانية. إذن لماذا لم يتجذر ما نادت به حركة النهضة? تساؤل اساسي تناقشه مقاربات عطية مسوح: إن ما نادت به حركة النهضة في الوطن العربي لم يتجذر لاسباب اولها أن الفسحة الزمنية التي انبسطت امامه كانت ضيقة, وثانيها أن القوى المناهضة للتطور الديمقراطي والعقلانية كانت قوية ومستندة الى تجربة طويلة وموروث فكري مهيمن قادر على الانبثاق واجتياح العقول في حالات معينة, وثالثها ان هذه القوى المناهضة لحركة النهضة كانت موعومة بعوامل خارجية, لم تتجذر حركة النهضة ايضاً لان بعض القوى الديمقراطية والعقلانية, والقوى التقدمية القومية والاشتراكية استعجلت اهدافاً واتبعت مقولة حرق المراحل وفرض التدابير,تدابير ماعرف بالشرعية الثورية في مقابل الشرعية الدستورية الديمقراطية,و قد ادى هذا الى زعزعة مكاسب العقلانية ولايخفي عطية مسوح تأثره في هذا بما كتبه محمد كامل الخطيب, بل يصرح به. أما المسألة التي اشتغلت فيها المقاربات شغلاً أكبر فقد كانت مسألة الديمقراطية, وكما تأثر مسوح بالخطيب في تناوله لمسائل حركة النهضة تأثر أيضاً بخالد محمد خالد في تناوله لمسألة الديمقراطية ويستشهد بقوله:( قد تصيب الجماهير مرة وتخطىء مرات, تهتدي تارة وتزل مرات, لكنها اخيراً سوف تضع اقدامها على صراط الحقيقة والصواب«, ويؤكد مسوح ان خصوم العقلانية والعلمانية والوعي المدني في كل مكان وفي مختلف المراحل, ولاسيما في العصر الحديث هم خصوم الديمقراطية, يخشون الاقرار بحرية التفكير والتعبير وشرعية الاختلاف والتنوع والصراع بأساليب سلمية تنص عليها دساتير وصيغ قانونية. اما التساؤلات المركزية التي تثيرها مسألة الديمقراطية فكان ابرزها ارتباط الهزيمة في مجتمعنا العربي ماضياً وحاضراً بغياب الديمقراطية, والمسألة الثانية ان الديمقراطية اسلوباً في الحكم واختيار الحكام اساسها مبدأ الانتخاب الحر النزيه و الإقرار بإمكانية تداول السلطة عن طريق ذلك ,و مراعاة حقوق الانسان, وخاصة حقه في التفكير والتعبير والتحزب والنقد وغير ذلك. ولايخفي عطية مسوح تأثره في تناول هذه المسائل بالمفكر خالد محمد خالد, بل يسميه : المفكر الديمقراطي الكبير, ويعده أهمَّ داعٍ نهضوي للحرية والديمقراطية ويستشهد بقوله:( لن نقدم لشعبنا في هذه الفترة الحاضرة حيزاً من الحرية, كي يستطيع في ضوئها ان يرى ويفكر ويختار الطريق القديم. فلنتذكر ذلك جيداً, حاكمين ومحكومين«. تساؤلات كثيرة تثيرها مقاربات مسوح عن الليبرالية, لكنه يشير قبل ذلك الى ان الليبرالية مضطهدة, لان كثيرين يقرنونها بالرأسمالية وينسبون اليها شرورها, ولان الفكر الليبرالي جاء انموذجاً لمقولة تطور الفكر و فق الواقع ومقتضياته ووفق قوانينه الداخلية الخاصة أيضاً, فكان انموذجاً لنزعة الفكر التجاوزية التي تجعله فاعلاً في الواقع لامجرد انعكاس له. إلا ان التجاوزية كانت مأخذاً على الفكر الليبرالي, لانها تقوم على مقولة:دعه يمر, دعه يعمل, لتحقيق حرية الفعل الاقتصادي, و قد ادى هذا المأخذ الى تغييب مقولات وقيم ليبرالية مهمة تتعلق بقيام مجتمع مدني, وبحقوق الفرد, وبتساوي المواطنين, وبفصل المؤسسة الدينية عن السياسية, وبحق الناس في تكوين الاحزاب, وبحقهم في اختيار الحاكمين عن طريق الانتخاب, وبحرية التفكير والتعبير عن الرأي, وبالخلاص من تقديس الافكار المألوفة والسائدة.. وهي مقولات خلقت فكراً سياسياً صار ملكاً للبشرية لاملكا لليبرالية.. اما القوى التي مارست وتمارس الهمجية والتسلط فهي تقرن ممارساتها بالخروج عن قيم الليبرالية بتضييق مساحات الحرية وتجاوز حقوق الانسان لانها تحس ان القيم الليبرالية تصبح عبئاً على الادارات الحاكمة, حتى في الدول الكبرى مثل امريكا. وبهذا يكون الدفاع عن الليبرالية السياسية والفكرية مهمة تقع على عاتق المناضلين ضد السياسة التسلطية والعدوانية, ويكون النضال لنشر القيم الليبرالية سياسياً وفكرياً في مجتمعاتنا العربية مهمة من الدرجة الاولى. إذا كانت مهمة المقاربة هي فتح حوار, فإن الدعوة الى فتح حوار تثير اسئلة كثيرة, اهمها :-كيف يمكن فتح الحوار وتنظيمه? - من الذي يضع ورقة عمل أو جدول اعمال لهذا الحوار? - من الذي يبدأ بالخطوة الاولى وكيف يكون ذلك? - الى من نتوجه بالحوار أولاً? الى قاعدة المجتمع الشعبية ? - كيف تنظم ذلك ومن ينظمه? - كيف يتحول الحوار من حوار عفوي يجري يومياً بحدود معينة في ارجاء الوطن العربي, في زوايا المقاهي وأروقة البيوت الى حوار منظم وموجه? لكن, إن أي حوار حول مسألة كبيرة حساسة بحجم مسألة الديمقراطية في المجتمع العربي ينبغي ألا يكون موجهاً وينبغي ألا يخضع لمصلحة جهة ما, وإن تكن هي الجهة المبادرة الى تنظيمه وتهيئة مسلتزماته. - هل يمكن أن يبدأ الحوار من فوق? - أيمكن ان يبدأ من الصحافة? - كيف نحدد الاسئلة التي سيدور حولها الحوار? إن هدف الحوار هو الوصول الى توافق تسعى قوى المجتمع الديمقراطية من خلاله الى البدء بعملية دمقرطة المجتمعات العربية,لذا فإن الاسئلة التي تنتج عنه اسئلة معقدة, وتلامس مسائل حساسة تحتاج كي يبدأ الحوار الى كثير من التروي والأناة والابتعاد عن الاثارة المجانية وتجنب التجريح والتشهير والنبش والإساءة الشخصية, والخلاص من العقد الناجمة عن فترات الصراخ السياسي الذي خرج في بعض المراحل السابقة عن الاطر الحضارية, ليصبح الحوار بحثاً عن الاسس التي تقوم عليها العلاقات بين المنظمات والمجتمع والدولة. لايكتفي عطية مسوح بإثارة الاسئلة حول القضايا التي اشرنا اليها فقط, بل تتناول مقارباته مسائل تتعلق بالفلسفة والمذاهب والمناهج الادبية كالواقعية, ويثير أسئلة كثيرة تتعلق بالثقافة وطبيعتها وخصائصها وروّادها المعاصرين.. (مقاربات في الفكر والثقافة« كتاب للاستاذ عطية مسوح صدر عن دار الينابيع بدمشق في طبعته الاولى عام ,2004 ويقع في 274 صفحة من القطع المتوسط. |
|