|
منوعات وليس في الأرض من دهر يستشعر وجع التراب كياسمين دمشق، فمن يتصفح وجه الياسمين يعرف عمق الحزن في عيون هذه المدينة التي غزاها الغبار والدخان والسحن الغريبة القادمة من المجهول، لترسل أعرق المدن في التاريخ إلى المجهول، وترسل شواهد حضارتها إلى النسيان، وبساتينها إلى المحارق السوداء، وعنبها وتفاحها إلى العقم والكساد، وصروحها إلى الهدم والخراب، وقاسيونها المعمم بخوذة العز إلى الاستسلام! أحزان دمشق تسري في أوصالها من مئذنتها العالية في الأموي، إلى صرح الشهيد، ومن ضريح صلاح الدين إلى ضريح يوسف العظمة، ومن شعر نزار قباني إلى ريشة فاتح المدرس، أحزان لم تعرفها من قبل، ولم تذق طعم نارها، فلقد اعتادت دمشق على الفرح، واعتادت على وصل نهارها بليلها على إيقاع نشيد الحياة من حميديتها المسقوفة إلى شوارعها المكتظة بقلوب الدمشقيين التي تنبض بالعافية والعزم، اعتادت دمشق على القراءة في كتاب المستقبل حتى ملحقه الأخير، وطوت منذ وقت طويل كل الكتب الصفراء التي زورت الماضي حتى قيمه الفاضلة، وأسقطت من ذاكرتها أضاليل التاريخ ورواياته الملفقة التي ابتدعتها عصور الجهل والانحطاط، دمشق المورقة على أشجار فنها وأدبها وعلومها والمتوجة بكبرياء عزها الذي غاب عن جبين مدن العرب، دمشق هذه تخلد اليوم إلى أحزانها الجليلة، وتمسح بكفها على مساكب الورود المنتشرة على شرفاتها قبل أن تبللها الدموع! من أطلق كل هذا السواد في سماء دمشق، ومن سهل للغبار والدخان سبيلاً إلى أحيائها، ومن يطلق على نوافذها المفتوحة دوماً على ضوء النهار وعطر الليل؟، من يطلق كل هذا الرصاص ويخترع كل هذا الموت، دمشق حسناء الشرق المدللة، القصة الأسطورية الهاربة من خزائن ألف ليلة وليلة، كتاب العرب الحديث المكتوب بحبر التحدي، من عبث بعقله الوهم فجاء لاغتصاب دمشق، كي تنتهي قصة الشرق المعصوم من الفناء، وتبدأ قصة الهنود الحمر المبشرين بالزوال على أيدي أكلة لحوم بشر من صنف جديد، قدموا من الغرب المقنع بالحلم الأميركي تحت شعار الحرية، ليجردوا دمشق من سلاحها وفتونها وبسالتها ويلحقوها بمزارعهم الشرق أوسطية المتخمة بالمال والذل! ليس السوريون هم من قاتل السوريين في بعض أحياء دمشق، فهذه المدينة لا تتصارع شرايينها وأوردتها فيما بينها بل تتكاتف وتتكامل، وليس السوريون هم من استدرجوا هذا الصراع الدامي، لكن دمشق تعرضت للغزو على أيدي مروحة واسعة من المتربصين بها، نامت وأفاقت فوجدت سحناً غريبة على أبواب بيوتها بكامل أسلحتها، من الشمال العربي الإفريقي إلى وحول الشيشان، تطوع أصحابها جميعاً في هذا الفيلق الشيطاني المغير على دمشق، تحت راية اليانكي الأميركي، وهؤلاء هم الذين قاتلهم السوريون في الشوارع والحارات الضيقة، وأفشلوا ريحهم، وهؤلاء هم الذين ألهبوا الحزن في صدر دمشق وأطلقوا الدخان الأسود في سمائها، وروعوا غصون ياسمينها الحانية على القلوب الدمشقية المكتنزة بحب الحياة! |
|