|
معاً على الطريق طفل رضيع يبكي.. وثياب سوداء مرميّة على الكرسي.. صور ة زفافها معلَّقة على جدار الغرفة المقشّر.. بيت الأجرة هذا ستغادره الآن.. ليس أمامها إلا بضع ساعات كي تسير خلف زوجها.. هو في تابوت ملفوف بالعلم، وهي في سيارة تنغلق عليها لتفصلها عن العالم كله.. بكى الطفل.. توسَّلت إلى الدموع أن تنزل مدراراً... لكنَّ الدموع في لحظات الألم العنيف لا تأتي.. جالت ببصرها على المكان... على الثياب.. على الكراسي.. هنا كان يجلس.. وهنا كان يرشف القهوة مستعجلاً.. وهناك يعلِّق الثياب المدنيّة.. بل هي ما تزال معلقة.. لقد تأخر في دوامه. مرات قالت له: لا تتأخر.. أنا أخاف وحدي.. وقالت:.. أنت كل شيء في حياتي.. لكن الهاتف رنّ.. صباحاً باكراً.. رنَّ الهاتف..قال المتحدث: ( هنا بيت الضابط ....؟) ارتجف صوتها.. وهي ترد ( نعم ) شعرت أنها ستقع على أرض الغرفة.. تابع الصوت ( مبروك ....) مبروك على ماذا ؟ مبروك.. لا تقلها أرجوك.. لا تلفظ حرفاً منها.. لكن الصوت تابع... مبروك شهادة البطل... .................................................................. قال الصوت مبروك.. وتركها في مهب الريح.. أصوات تتداخل.. وأصوات تتصارع.. قالت له: « متى نشتري بيتاً؟ تعبت من الأجرة.. الطفل يبكي.. الدولة ستعطيها بيتاً.. لكن صاحب البيت غائب.. وهي تخاف إذا غاب... عليها أن ترتدي الأسود.. كان يحبُّ الألوان الزاهية.. قال لها إذا استشهدت لا ترتدي الأسود.. أريدك وردة زاهية أبداً.. غضبت وقالت له لا تمزح معي أرجوك.. أكره هذا المزاح.. هي تعرف أن شهداء كثيرون قد سقطوا.. وتعرف بعض رفاقه الشهداء.. لكنها لم تكن تظن أن دورها سيأتي.. وأنها سترتدي الأسود مثل كل الزوجات والأمهات..الطفل يبكي.. يريد حليب أمه.. لكن حليب الأم جفَّ.. تسمع صوت والده ( وصيتي لك هذا الطفل ) شعرت بأن سكيناً تحزّ روحها ( هل كنت تعرف أنك ستموت؟) صرخت بألم وهي تنظر إلى الصورة.. حاولت النهوض لكنها لم تقدر.. وحيدة تنتظر تابوت زوجها.. وحيدة ترتِّب عمرها في حقيبة.. ماذا ستأخذ وماذا ستترك في هذه المدينة التي سلبتها زوجها..؟ رنَّ الهاتف.. تساءلت - هل الطريق آمن؟ كم تشعر بالبلاهة الآن.. لماذا تسأل عن الطريق.. ما نفع الأمان بعد زوجها وحبيبها... سنوات ثلاث قضتها معه في مدينة غريبة فكان قريتها وأهلها وفرحها؟ من أين تشتري الفرح بعد الآن؟. هل لبستِ الأسود؟ سمعته يسألها. وخيِّل إليها أنها ردَّت.. لكن الطفل الصغير حبا إلى حضنها. شعرت أنها مثل هذا الطفل.. عاجزة عن فهم ما يدور حولها وعاجزة عن تفسير هذا العالم.. عاد الصوت..هل لبستِ الأسود؟. .............................................. نعم لبست الأسود.. جاء جنود لمساعدتها.. لم تأخذ معها أي شيء.. قال جندي كان مع زوجها.. سيدي كان بطلاً.. لم ترد.. وقال.. أين حقائبك؟ ظلَّت صامتة.. لقد قررت ألّا تأخذ شيئاً معها إلى قريتها.. ستعود بلا أشياء فانية.. هي تعرف أن القرية بانتظارها.. بانتظار الشهيد وزوجة الشهيد وابن الشهيد. وتعرف أنهم سيبكون ألماً... ولكن لن يستطيع أحد أن يقدّر ما تشعر به من غربة وضياع.. هاهي صارت أرملة.. خلال ساعات صارت أرملة...وحيدة... تائهة في غابة الزمن المرّ... وصار عليها أن تربي يتيماً.. وتتحسس من نظرة الشفقة إلى ابنها وإليها.. ستعود إلى بيت الأسرة وستنام في سريرها عندما كانت في أطوار حبها لفتى يرتدي الخاكي ويغيب طويلاً بين اللقاء واللقاء. لكن الأمل كان يشعل أضواء العالم في روحها.. لم تكن تتوقع أنه سيتركها في مهب الريح.. وما كانت تتخيل أن تعود بدونه إلى أهلها وقريتها ......................................... هو ارتدى الأحمر القاني.. وهي ارتدت الحزن العميق.. ليل طويل رمى عباءته على روحها.. الطفل يبكي.. والطريق طويل إلى نهاية لا تنتهي.. وقف الناس على مدخل القرية يرقبون هذا القادم من فضاء الغياب.. لم يتوقعوا سوى الأسود يلف امرأة فتية تحمل طفلاً رضيعاً.. لكن المشهد غير ذلك.. المشهد صدمهم.. الشابة ترتدي ثوب العرس وتحضن ابنها.. ساد الصمت فقالت وهي تنظر إلى الحشد.. أنتم لم تحضروا العرس لأننا أساساً لم نعمل عرساً.. فهل سمحتم أن تزفوني إلى العريس؟ .............................. في مهب الريح تركها ومضى... هي الأم الصغيرة.. وهي التي صارت تحت وصاية الألم. |
|