تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قصيــــــدة الــــــــدم الحقيقيـــــــــــة ..

مبدعـــون علـــى صفحـــات «الثـــــورة»
الاثنين 23-9-2013
خلدون الشمعة

«ليس ثمة من عصر عرف الكثير من الجوانب المختلفة المتعلقة بالإنسان كعصرنا. بيد أنه ليس ثمة من عصر يباري عصرنا في القدر الضئيل الذي يعرفه عن الإنسان».

هذه الصورة المرعبة التي يرسمها -هيدغر- لإنسان هذا العصر، يجيب عليها فيلسوف آخر بقوله: -الإنسان هو ما يصنع من نفسه فقط..‏

ويعقب الروائي والشاعر -لورنس فرلنغيتي- في رواية شهيرة له، يعقب على حركة الدفع والجذب في هذا الحوار القصير، يعقب قائلاً:‏

- لقد كانت لدي إرادة حيوان خرافي على مجابهة التحدي في هذا العالم وبدأت رحلة البحث عن الذات مفعماً بأنفاس ربيع مشتعل بالتفاؤل. غير أنني ما إن امتطيت قطار منتصف الليل حاملاً تفاؤلي في حقيبة صدري حتى اعترضني حرس الحدود. يا للحجيم!!.. لقد اكتشفت أنهم فرضوا ضريبة باهظة على التفاؤل!.‏

في هذا الصدام الدموي بين الإرادة والحدود التي تقف سداً في وجه الإرادة تبرز أهمية العثور على قاعدة صلبة ينطلق المتمرد منها. إن المتمرد بلا قاعدة كهذه هو الجرم عادة. الحمقى والمتوحشون فقط لا يبذلون محاولة للانسجام مع الحياج وفق شروط تستند إلي قاعدة صلبة . الحمقى والمتوحشون فقط هم الذين يريدون تحقيق كل شيء دون أن يكون لديهم أي استعداد لدفع ضريبة الدم.‏

ولقد كانت ضريبة الدم هذه وما تزال الأساس الضابط لإرادة التغيير. وكانت قصيدة الدم وما تزال أبلغ تأثيراً من قصيدة الشعر. إن قصيدة الدم هي حصاد الهندسة البشرية، حصاد تجربة الإنسان وقد وصلت إلى الخط البياني الأقصى لما يمكن لإرادته أن تفعل في أي وقت من الأوقات.‏

ولقد كتب الشاعر الشهير -هايني- مرة، كتب قصيدة أطلق عليها اسم قصيدة -الدم-.. غير أنه في لحظة من لحظات إدراك التناقض الصارخ بين الفعل والكلمة، تخلى -هايني- عن قصيدة الدم المكتوبة لكي يؤكد أن قصيدة الدم الحقيقية هي قصيدة الفعل.. وأن هذه القصيدة الأخيرة هي الأساس الأول والأخير لكل تغيير. وأراد -هايني- أن يثبت لصديق من أشد أصدقائه إعجاباً بقصيدة الدم التي كتبها في مطلع الشباب، أن الدم الحقيقي أبلغ من الدم الشعري، فذهب لزيارة هذا الصديق في أحد الفنادق متعمداً اختيار وقت لا يمكن أن يجده فيه.‏

وعندما اقترب الشاعر -هايني- من خادم الفندق طلب منه شمعة وورقة.. ثم أخرج من ياقة معطفه دبوساً لامعاً وضعه على لهيب الشمعة لعدة ثوان، ثم وخز إصبعه بشدة حتى بدأ الدم ينفر منها... وسفح بضع نقاط على الدم -الورقة- وقام بطيها ثم وضعها في مظروف كتب عليه اسم صديقه وقدمه إلى خادم الفندق قائلاً: -لا حاجة أن تذكر اسمي.. فسيدرك كل شيء..‏

وعندما فتح صديق -هايني- المظروف أدرك فعلاً أن الدم الحقيقي أبلغ من الدم الشعري بكثير، وسارع إلى كتابة رسالة عاجلة إلى الشاعر -هايني-.‏

عزيزي هايني: -قصيدة الدم الجديدة هي أفضل بكثير من قصيدة الدم التي كتبتها في الماضي.. لقد كنت غبياً فعلاً أمام التناقض الذي تكشف لبصيرتك الشعرية. ولكن ألست ترى أن قصيدة الدم الجديدة هذه، قصيدة الدم الحقيقي يجب أن تسفح من أجل هدف ما.. هدف يبرز العذاب الذي يعانيه المتمرد من أجل كتابتها؟!.‏

لقد عثر صديق -هايني- على اللؤلؤة التي يبحر المتمردون عبر المحيطات السبعة بحثاً عنها قبل أن يصبحوا ثواراً. إن التغيير بحاجة إلى قصيدة دم حقيقي.. والعثور على قاعدة لهذا التغيير يبرر سفحها دون تردد.‏

إن قصيدة الدم الجديدة على أي حال هي ضريبة التفاؤل...‏

الأحد 21/4/1968‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية