|
مبدعـــون علـــى صفحـــات «الثـــــورة» كان بودي أن أتبعه كي أجري معه حديثي، لكنني فضلت انتظاره حتى يعود إلى رأس حقله حيث أقف أنا. لقد كنت أرقبه وهو مقبل علي وراء ثوريه بعين ملؤها الاعجاب بهذا الانسان المكافح، الدؤوب على عمله، وهو فلاح من ريفنا المكافح لم يتجاوز العقد الرابع من عمره. ملامحه تدل على القوة والعطاء، وجه أسمر، وشارب كث وقدمان عاريتان تعانقان التربة وتغوصان بين حبيباتها، وقد ارتدى الزي الشعبي لريفنا.. قميص بسيط مصنوع من القماش الزهيد الثمن، وقد حيك بطريقة تقليدية جميلة. كان يبدو لي كالعملاق وهو يضغط بزنده الاسمر المفتول على ساعد محراثه ليشق الأرض كأنه يود أن يغوص بها ليخرج الخير من بين طياتها الصلبة. وما ان اقترب مني حتى بادرته بالتحية: يعطيك العافية ياعم. أهلين وسهلين الله يعافيك. وسألته: كم لك من الوقت وأنت تعمل هنا؟ فأجابني بعد أن مسح حبات العرق المنثورة فوق جبينه: ولله يا بني من بكير كتير، من قبل أذان الصبح وأنا عم اشتغل وقبل أن أتكلم دعاني إلى شرب فنجان من الشاي. فقلت له: وأين الشاي الآن. فقال: معي هون الترمس أنا بجيبو معي دوماً. وأخذ البراد وملأ لي كأساً من الشاي الساخن ولسانه لم يتوقف بعد عن الترحيب بقدومي. وقلت له ونحن نحتسي الشاي: ألا تشعر بالتعب والملل من عملك هذا؟ فقال: من ناحية التعب فهذا لا مفر منه فلكي ننتج ومن ثم نعيش فلابد من التعب، أما من ناحية الملل فهذا لم نعد نعرفه بعد أن اعتدنا على عملنا هذا. والله يا ابني صدقني أن اليوم اللي ما بشتغل فيه بحس كأني ضايع.. العمل ياابني جوهر للإنسان.. بيجلي الواحد جلي وبيرجعله نشاطه. فأجاب خمسة وعشرون دونماً سقي. وسألته: هل أنت متزوج..؟ فأجاب ضاحكاً: هوهو من زمان.. بدك ياني ضل لهلق بدون زواج.. صاير نحن هون بالريف منتزوج على بكير.. أنا حالياً أولادي صاروا شباب من جيلك. وكم عدد أولادك؟ سبعة وأنا وأمهم. وهل إنتاج هذه الأرض يكفيكم..؟ الحمد لله.. ساترها ربك.. خير الله كالبحر. وسألته ثانية:أظن بأنك قد سمعت بأسبوع القطن، الذي خصصته الثورة من أجل زيادة إنتاج هذا العام إلى نصف مليون طن؟ فأجاب: أي نعم والله سمعت. فقلت له: شو رأيك بالموضوع؟ فأجاب: شو المانع إننا ننتج نص مليون طن، والله يا ابني كل شي بيصير، أرضنا طيبة وخصبة، بس بدها مين يشتغل ويعتني فيها، وساعتها بتتفرج على المحصول يلي بصير. لقد كان يتحدث ببساطة ووضوح تام، بدون لف ودوران، بدون مقدمات أو كما يقال: الذي بقلبه على رأس لسانه، لا يعرف الغش والمراوغة، يشعر الإنسان بالارتياح لحديثه، إنه رجل عمل وإنتاج، يعمل دون كلل أو ملل، إنه مدمن على العمل ومصمم على زيادة الإنتاج، وهب نفسه للأرض التي نشأ عليها وارتبط بها مصيرياً فهو لا يعرف الميوعة والخنوع، إنه إنسان بسيط بتركيبه وتفكيره، عظيم بإنتاجه وعمله يعمل دون أن يعلم مقدار قيمة عمله، يصنع الحضارة والتاريخ دون أن يدرك ذلك. لقد ذكرني بفلاسفة عصرنا الحاضر، شبابنا المعقد الضائع في خضم حياتنا الحديثة، فرسان المقاهي والملاهي والتخيلات المخملية الجميلة، الذين يحفظون عشرات بل مئات النظريات والنصائح، ويتباهون بترديدها ليل نهار، وغيرهم ممن ضاعت علي أسماؤهم. أولئك الذين يغرقون في شبر من التحليل والتفكير ومن ثم يدخلون حلبة النقاش والجدل البيزنطي العقيم. والحياة بقربهم تزدهر وتنمو بالعمل والنشاط، وللوصول إليها لا تحتاج العملية منهم سوى أن يتحركوا من وراء طاولاتهم الخضراء، ويخطون خارج زجاج مقهاهم الجميل لكي يشاركوا بازدهار ونمو مجتمعهم المتطور. لقد جعلني حديث الفلاح البسيط أشعر بالخجل والمهانة وأنا أذكر شبابنا المثقف المختبئ وراء متراس الكلمات، ولقد صدق ماوتسي تونغ حينما قال: إياكم والكتب فإنها إن تتكدس تحجب عنكم الرؤيا. السبت 13/4/1968 |
|