تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


العين بعد فراقها الوطنا..

من داخل الهامش
الاثنين 10-11-2014
 ديب علي حسن

حين كنا صغارا وكانت مواسم الهجرة وتبدل الفصول وتغير الطقس وابتداء دورات حياة جديدة، لم نكن ندري ان اسراب الحوم التي تملأ سماءنا عابرة بين فصلين انما تبحث عن موطن الدفء والحنان وان لها هجرتين ولها وطن واحد حيث تستقر،

كبرنا وكبر الحلم وعرفنا ان اسرار الحب الاول للمكان ليست امرا عاديا ولاهي طبيعية بل سر حقيقي حتى الان لم يكتشف كنهه ابدا والا ما الذي يجعل ميسون البدوية الضاربة في غياهب كثبان الرمل تفضل كلبا ينبح الاضياف وتترك قصر معاوية وما فيه من طرف، وتعود الى حيث مسقط راسها.‏

وما الذي يجعل هرة صغيرة تقطع عدة قرى ووديانا لتعود الى صاحبتها وتتمرغ بها ومن ثم تقفز الى الحواكير والزوايا وكأنها تخبر اني قد عدت، وما الذي يجعل شاة تعبر صحراء لتعود الى قريناتها وهي ذات الوفاء اكثر من صاحبها؟‏

الم تقل ذات يوم امرأة لزوجها المعفن بخلا: والله ان الفئران لا تجد ما تاكله من فتات هنا ولكنها لا تغادر لحبها وطنها ؟ ومن قبل في تراثنا الكثير الكثير من قصص الحكايا والالفة والذوبان في تراب الوطن ومن اجله، ولعل اسامة بن منقذ كان اهم من صنف في هذا المجال وغير ذلك كثير فيما بعد.‏

واليوم مالنا نرى من يرى الوطن مغنما ومكسبا وحقلا من قمح وجرار عسل يقطف ويرشف ويغب، وحين يمتحن الوطن قليلا يحزم حقائبه مغادرا وليته يغادر دون ان يترك اثامه وبقايا خطاياه واذياله حيث يجب ان يكون الندى.‏

يترك الوطن وهو يظن ان ماله الذي كدسه دنسا وسرقة يغنيه عن كل ما كان، ويصبح حيث هو كالبعير الاجرب لا ينفعه ماله ولا امجاد الوهم ابدا، الوطن أي وطن الذي يألفه ايا كان هو الذي تعبر عنه العامة وما اروعه من تعبير بقولهم: (المربى حلو) ولعلنا نردف ذلك بقولهم (توب العيرة ما بدفي واذا دفا ما بيدوم).‏

هي حقيقة لا ينكرها احد حتى ذاك الذي يغادر وطنه وهو التائه بكل المعاني، اليوم وكل يوم علينا ان نجسد في فكرنا وثقافتنا وحياتنا ومناهجنا التربوية ان الوطن فوق كل شيء، والوطن ليس حجارة ومكانا وتجارا وبضاعة ووو هو كل ما في الحياة من عبق وطيب وهو كل مافيها من هفوات ونزوات لاننا بشر نمارسها نرتكبها، لكنه ليس خطايا واخطاء نقصدها وليس بقرة حلوبا حين يجف ضرعها نمسك سكين الجزار ونذبح.‏

الوطن انت وانا هم ونحن، كلنا، جميعنا، ماضينا، حاضرنا، يومنا، غدنا، لابنائنا واحفادنا، الوطن حلونا ومرنا، فقرنا وغنانا، انتصارنا، والوطن لا يهزم واذا ما هزم فابناؤه ليسوا جديرين به ابدا، الوطن القوي حصن وبيت وامل ووعد وغد فمالنا اليوم ونحن نرى من فتك به، صال وجال قبحا وسرق وشبع من دمنا وتركه حين استدعاه، نراه الان وهو يحيك طريقا مخاتلا للعودة او للانقضاض عليه من جديد (الصيف ضيعت اللبن).‏

الم يقل الشاعر الزركلي:‏

العين بعد فراقها الوطنا‏

لاساكنا الفت ولا سكنا‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية