تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عــــــــودة إلــــــى الإيقـــــــاع

ثقافة
الخميس22-10-2009م
عبد الكريم الناعم

قبل الشروع،ثمة تمنٍّ، وهو ألا يعرض عن الموضوع من يدير له ظهره بسبب العنوان،

وأتمنى أن نتعلم على سبل الاكتشاف الموضوعي، كوسيلة من وسائل التفكير، وأن نخرج من أسار مانحن له منحازون، فقد فتكت بنا تلك القبلية - بفتح الباء- قديماً وحديثاً، وغشت على الأبصار والبصائر، فأصبحت البصائر التي هي مراكز التمييز النوعي تابعة لما شحنا به قناعاتنا، لا لما يتبدى أنه الحق، والذي لاشك فيه أن تحرير العقل من المسلمات الملقنة هو بداية القدرة على التفحص الذي يوقد شمعة العقل، فيوقظه، فإذا استنار العقل اشتعلت شمعة الوجدان، وكلاهما - العقل والوجدان- شرط في صفاء الآخر.‏‏

الأسطر السابقة دوافع كتابتها أن ثمة من يقرأ من أجل تدعيم ثوابته الصلدة، لامن أجل الاغتناء والازدهار بكل الأفكار التي تتفتح بهجة، وجمالاً، وعطاء.‏‏

يمثل حتى الآن على الساحة الشعرية، من حيث الشكل الشعري ثلاثة نماذج: نظام العمود، ونظام التفعيلة، هذان كـ(نظامين) يمكن تحديدهما وثمة من مزج، أويمزج بين نظام التفعيلة والكتابة النثرية، وثمة قصيدة النثر، وهذان وإن أخذا (شكل) الشعر فإنهما لايدخلان في مساحة مانسميه (نظاماً).‏‏

لن أدخل في فضاء تحليل علاقة الإيقاع بأنماط الإنتاج، لأن النتيجة التي سنصل إليها، إذا أردنا أن نكون منصفين، وغير مستلبين فلسفياً، أو انتماء لمقولات شمولية.. هذه النتيجة لاتبدو أنها على درجة من اليقينية الحاسمة حتى حين تبدو فيها بعض الملامح اللافتة.‏‏

هنا قد يكون من المفيد أن نتنبه إلى أن (الشكل) في مثوله الفاعل قد ينتقل من مجتمع متطور صناعياً، إلى مجتمعات مازالت تتخبط وتتعالق أنماط إنتاجها، كانتقال شكل الرواية، وقصيدة النثر إلى البلدان التي لاتزال تتلمس طرق انتقالها، وخياراتها، وهذا ليس عصياً على التفسير فالإنتاج الروحي حين يحقق مثوله يتحول إلى قوة مادية فاعلة، وهذا التحول دليل على التعالق المدهش، والجميل بين المادي والروحي فهذا العالم الذي نحن فيه ليس مادياً بحتا، كما أنه ليس روحياً بحتا، ونحن نتحرك في هذا الفضاء بشكل يقيني غير أن محاولات تغليب جانب على آخر خلافاً لما هو واقع هوالذي يستنفر (الأنا) السلبية، لا (أنا) الإيجاب القائمة على التفتح، والأخذ، والعطاء.‏‏

لعل من يخطر بباله سؤال لماذا لم يأخذ العرب زمن كانوا مركزالفعل العالمي من الشعوب والأمم الأخرى شيئاً من أشكال آدابها، أو من إيقاعات شعرها، وهم الذين عرفوا المثاقفة مع الآخر؟.‏‏

لاشك أن تفسير ذلك ليس عصياً، فقد كان العرب هم المركز الفاعل يومذاك، ولذا أخذ عنهم البعض، في مجال الشعر، الأوزان الشعرية، وهذا مانلمسه في إيران، و في أوزبكستان، في حدود مانعرف، ولعل ثمة مواقع أخرى يعرفها أصحاب الاختصاص.‏‏

إذاً تلك هي طبيعة التأثير في المجتمعات، أن يقلد (الأدنى) من يراه (أعلى) فلقد أخذنا نحن في عصرنا الحديث، أو استلهمنا من الغرب، مركز الفعل العالمي حالياً.. استلهمنا العديد من المجالات الإبداعية، في المسرح، وفي الرواية، وفي تداخل بعض الأجناس.‏‏

في حدود مانحن بصدده، الشعر من حيث الإيقاع /الوزن ثمة الأنماط التالية:‏‏

-نظام العمود، وهو نظام ورثناه، وابتدعه أسلافنا العرب القدامى، واستمر لانعرف غيره حتى عام 1949م، حيث كانت أول بذرة لنظام التفعيلة، ولايفوتنا أن نذكر أن (باكثير) سبق تلك النقلة التي اكتملت في العراق، وغطت على ماسواها، ورغم هذه النقلة النوعية التي كانت لها آثارها البعيدة والعميقة على بناء القصيدة العربية الحديثة، فإن مالاخلاف فيه أن هذا النظام الجديد خرج من رحم النظام القديم، (العمود) فهو تطوير له واكتشاف لماكان ينطوي عليه من إمكانات إيقاعية وليس آخذاً من بلدان المركز الغربي.‏‏

قد يكون من المفيد هنا التذكير بأن البنية الإيقاعية الوزنية في الشعر العربي قد التفتت قديماً إلى بعض ماانطوت عليه تلك البنية فنوعت، إيقاعياً بين البحر ومشطوره ومجزوئه ومنهوكه وأدركت أن ثمة اختلافاً إيقاعياً وهذا ربما أشار إلى أن الأمم في أزمنة عطائها الحضاري، حين يكون التوجه إنسانياً فإنها تبحث عن المزيد من الآفاق التي تعبر عن تشوفاتها وعن نزوعاتها.‏‏

في نظامي العمود والتفعيلة لايجد الباحث مشكلة تذكر فكلا النظامين له أسسه المعروفة والمتبعة، عبر التقيد بأنظمة الوزن المعروفة وما يتوقف عنده تبدأ من النمطين الآخرين.‏‏

ثمة تزاوج في بعض النصوص بين الموزون الإيقاعي والكتابة النثرية، ومثل هذا النمط يصدر عن واحد من اثنين.‏‏

شاعر متمكن من الكتابة الإيقاعية كأدونيس، ومن كان على شاكلته في هذا السياق وهذا لايمكن الاحتجاج عليه ولامناص من دراسة النص وتقييمه فقد أثبت صاحبه قدرته المميزة على كتابة الشعر الإيقاعي بنظاميه العمودي والتفعيلي، وهو حين يذهب إلى تطعيم ماهو إيقاعي بما هو نثري فله منه أغراض أخرى لسنا بصددها هي تقع حتماً خارج دائرة العجز.‏‏

شاعر يكتب نصه في لحظة استغراق، لايعنيه لحظة الكتابة، أو قد لايكون قادراً أو متعوداً على مراقبة سلامة الإيقاع، فينتهي من النص ويعيد قراءته ليكتشف أن ثمة تكسرات وزنية في عدد من الموضوعات ، ولربما وجد في جبر كسورها شيئاً من العناء، وقد يشكو البعض من قلة التزود بمبادىء الإيقاع الشعري، وثمة قطبة جد خطيرة إيقاعياً في نظام التفعيلة على وجه الخصوص، وهي أن بعض الكسور الوزنية لاتلتقطها إلا الأذن الإيقاعية البالغة الرهافة وذلك لأن الجملة الشعرية الطويلة المتتابعة تهيئ لتهريب بعض الكسور التي مايكاد ينتبه إليها إلا القلة وهذا موجود لدى عدد غير قليل من الشعراء المعنيين بالإيقاع، ثمة من يضع يده على مواقع الكسور الوزنية ويرى أن جبرها يحتاج إلى تبديل (المفردة) وثمة مفردات محددة أثيرة على بعض النفوس ولاتستهل تبديلها فتترك النص كما ورد.‏‏

هذا كله هيأ لتسويغات هي ليست أكثر من البحث عن مخارج للتخلص من ذلك المأزق ومن هنا جاءت تلك التنظيرات أوالتبريرات فثمة من قال إنه يترك النص كما يأتي حفاظاً على صدقية اللحظة، هذا القول الذي لايشرع لارتكاب الخروج الإيقاعي أغرى البعض وكنت لفترة ممن أخذ به، ولكم أنا نادم على ذلك وقد استدركته منذ زمن طويل فأنا من الملتزمين بقوانين الإيقاع الشعري والتسويغات المذكورة شكلت غطاء للبعض الآخر.‏‏

لعل مما هو جدير بالملاحظة أن مثل هذه الظواهر، أعني الكسور الوزنية، تكثر عند عدد من الشعراء العراقيين المعروفين، والذي لاخلاف على شاعريتهم وربما يقول لك من تثير أمامه هذه الظاهرة إنها مسألة لاتستحق التوقف، وهذا أمر خلافي في التقييم، وفي النواتج المترتبة إذ صرنا نسمع من إذا قلت له إن المكان الفلاني يشكو من خلل إيقاعي فإنه يجيبك وهو يحمل لهجته المهذبة كل شحنات الاحتجاج، أو قد يلوي حنكه ليقول:‏‏

«ألم تجد في النص كله إلا هذا»؟! يقول مايقول متجاوزاً أن الخط المستقيم حين يدخل عليه أي انكسار مهما كان خفياً فإنه لايظل مستقيماً بل يصبح له اسم آخر.‏‏

al-naem@gawab.com‏

‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية