تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الابتزاز السياسي بأدوات قانونية.... الجنائية الدولية في ميزان القانون الدولي

شؤون سياسية
الأثنين 6-4-2009
د. هيثم موسى حسن

« لا أحد أشد عمىً من أولئك الذين لايريدون أن يبصروا»!

يبدو أن هذه المقولة تنطبق أكثر ما تنطبق على من ينظر- بعفوية أو حتى بسذاجة- إلى السياسات الدولية الراهنة وتداعياتها على الدول العربية والإسلامية، وذلك دون محاولة فهم طبيعة هذا الحراك السياسي والقانوني الموجه نحو هذه الدول ورموزها، ودون استجلاء أو كشف حقيقة الأهداف - المعلنة أو الخفية- التي تقف خلف هذا الحراك.‏

وقد جاء القرار الأخير للمحكمة الجنائية الدولية- الصادر بتاريخ 4/3/2009- باتهام الرئيس السوداني عمر حسن البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور وتوقيفه بغية تقديمه للمحاكمة أمامها، ليؤكد على هذه الحقيقة..‏

فالمتتبع الموضوعي لماجرى ويجري حالياً على الساحة الدولية، لابد أنه سيخرج بنتيجة مفادها: أن هناك محاولات حثيثة لإحياء الشعار القديم «الهندي الصالح هو الهندي الميت»، وليصبح في الوقت الراهن «العربي أو المسلم الصالح هو العربي أو المسلم الميت»!.‏

وصفة «الميت» هنا لاتعني الموت المادي للشخص المستهدف فحسب، بل تمتد لتشمل الموت المعنوي والفكري والانهزام الروحي والحضاري.. وإذ عجز ويعجز المستعمر- بكسر الميم- القديم والجديد وبكل ألوانه وأشكاله.. عن تحقيق أهدافه هذه بالوسائل العسكرية والحربية والاستعمار المباشر، فإنه لجأ ويلجأ إلى استخدام وسائل أخرى بديلة، تتسم ظاهراً بالموضوعية والمدّنية، ولكنها تُخفي أحقاداً دفينة وأطماعاً مستترة.. ومن أهم هذه الوسائل اللجوء إلى تطويع قواعد القانون الدولي وأحكامه لمصلحة تحقيق هذه الأهداف، وما ينطبق عليها مقولة «كلمة حق أريد بها باطل».. وهكذا جاء ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 متضمناً «حق الفيتو» للدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية..حتى تضمن سيطرتها على العالم.. ومن ثم جاء «نظام روما» (المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة ) لعام 1998 والذي أصبح نافذاً بتاريخ 1/7/2002- وتحت شعار مكافحة الجرائم الدولية وملاحقة ومعاقبة المتهمين بارتكابها تحقيقاً للعدالة الجنائية الدولية وتحقيقاً للأمن والسلم الدوليين.. ولكنه أعطى مجلس الأمن الدولي صلاحية التدخل في عمل المحكمة الجنائية الدولية من خلال المادة 13/ب من نظامها الأساسي، باعتباره جهة مخولة بتحريك الدعوى الجنائية ضد أي مسؤولين من أي دولة كانت... ووفقاً للمادة 16 بتخويله سلطة إرجاء أو وقف التحقيقات أو المقاضاة الجارية أمام المحكمة لمدة اثني عشر شهراً قابلة للتجديد..‏

وعلى ضوء ماتقدم سنناقش مشروعية القرار الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية باتهام الرئيس السوداني وتوقيفه، وفقاً لما يلي:‏

أولاً: عدم مشروعية القرار بناء على الأحكام العامة الواردة في القانون الدولي العام ويتجلى ذلك في النواحي التالية:‏

1- مخالفة القرار لنص المادة 26 من اتفاقية فينيا لقانون المعاهدات لعام 1969، ونصها: «كل معاهدة نافذة تكون ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية» وهذا يعني أن قواعد القانون الدولي بمصادره المختلفة- ولاسيما أهمها «المعاهدات الدولية» لاتعتبر ملزمة للدول- المخاطبة بأحكامه- إلا إذا عبرت عن رضاها المسبق والصريح بها.. فالقانون الدولي قانون رضائي بالدرجة الأولى ويجد أساس إلزاميته في إرادات الدول بالالتزام به.. وتطبيقاً لذلك فالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة هي نتاج لمعاهدة دولية، وبالتالي فأحكامها ونصوصها غير ملزمة إلا بالنسبة للدول التي صادقت عليها.. ومن المعلوم أن السودان لم يصادق على معاهدة «نظام روما » التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية.. وبالتالي فلا تسري أحكامها ونصوصها عليه إطلاقاً..‏

2- مخالفة القرار لنص المادة (2) الفقرة (7) من ميثاق الأمم المتحدة ومطلعها: «ليس في هذا الميثاق مايسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما».. ومن المعروف أن مسألة الاختصاص الجنائي الوطني بملاحقة ومحاكمة الجرائم والمتهمين بارتكابها والواقعة في إقليم الدولة أو ضمن الصلاحيات القانونية والقضائية لقانونها ومحاكمها الوطنية، تعتبر من الأمور الملازمة بشكل حتمي لسيادة الدولة الوطنية، بل ولممارستها بشكل فعلي.. وبالتالي فلا يمكن تصور التنازل عن هذا الاختصاص السيادي إلا بموافقة الدولة الصريحة، ومن ثم فلا يجوز لأي دولة أو لمنظمة دولية أن تتدخل في هذا الموضوع السيادي.. فهو من الموضوعات المحفوظة للسيادة الدولية الوطنية.. ولذلك فإحالة مجلس الأمن الدولي لملف «الجرائم الدولية» المرتكبة في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية يعتبرأمراً غير مشروع، وباطل.. وفقاً لما تقدم، لأنه يعتبر تدخلاً سافراً في صميم الشؤون الداخلية للدولة، ولو كان تحت ذريعة مكافحة الجرائم الدولية والعقاب عليها..‏

3- بروز المعايير الانتقائية، و«التسييس» بشكل واضح في حالة دارفور:‏

إذا كانت العدالة الجنائية الدوليةمطلباً محقاً وضرورياً لضمان سيادة السلم و الأمن الدوليين وبالقصاص من جميع المجرمين أياً كانت جنسيتهم أو صفاتهم أو مراكزهم.. فإن الواجب القانوني والأخلاقي- تجاه العدالة الجنائية الدولية- يقتضي أن نبدأ بالجرائم الأشد خطورة وجسامة على السلم والأمن الدوليين.. الجرائم الإسرائيلية بحق أبناء الشعبين الفلسطيني واللبناني.. والجرائم الأميركية بحق أبناء الشعبين العراقي والأفغاني..فضلاً عن الجرائم الأخرى والتي لا تسقط بالتقادم على كل حال.. أما التركيز على بعض الجرائم المزعومة هنا وهناك، والتدخل بالشؤون الداخلية لبعض الدول تحت مسمى العدالة الدولية.. فهذا أمر غير مشروع ولايمكن القبول به، لأنه يخفي أهدافاً سياسية و اقتصادية واستعمارية.. ويكشف زيف هذه الادعاءات وبطلانها..‏

ثانياً: عدم مشروعية القراربناء على الأحكام الخاصة الواردة في نظام المحكمة الجنائية الدولية ذاتها، ويتمثل ذلك فيما يلي:‏

1- مخالفة القرار الصريحة لما ورد في ديباجة نظام المحكمة والمادة الأولى منه والتي قضت بأن اختصاص المحكمة القضائي مكمل للاختصاص القضائي الوطني.. أي أن القضاء الوطني هو القضاء الأصيل أو الأصلي في ملاحقة مثل هذه الجرائم.. واختصاص المحكمة الجنائية الدولية هو اختصاص فرعي أو ثانوي أو مكمل للقضاء الوطني.. وبالتالي فإن إحالة ملف الجرائم المرتكبة في إقليم دارفور السوداني إلى ولاية المحكمة الجنائية الدولية عبر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1593 لعام 2005 وبشكل مباشر فيه افتئات على السيادة الوطنية السودانية، لأنه صادر الاختصاص القضائي الوطني السوداني لصالح اختصاص المحكمة مباشرة.. دون إعطاء أي فرصة للقضاء الوطني.. وهذا مخالف لنظام المحكمة ذاتها.. وبالتالي يعرضه كقرار لعيب عدم المشروعية والبطلان.‏

2-بالنسبة لصلاحية مجلس الأمن الدولي في الإحالة إلى المحكمة بموجب الفقرة /ب/ من المادة /13/ من نظامها الأساسي، والتي انعقد بموجبها اختصاص المحكمة بالنظر في الجرائم المرتكبة في إقليم دار فور.. فإننا نجد أن مجلس الأمن الدولي قد تصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وكأن هناك عدوان أو حالة عدوان من دولة تجاه دولة أخرى.. بينما في حقيقة الأمر أن الجرائم المرتكبة في إقليم دارفور ناتجة عن حرب أهلية أو داخلية أو غير دولية. وبالتالي فإنها تقع خارج صلاحية مجلس الأمن الدولي، إعمالاً لنص المادة (2) الفقرة /7/ من ميثاق الأمم المتحدة.‏

4- بالنسبة لقرار المحكمة الأخير بملاحقة الرئيس السوداني لاتهامه ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.. فصحيح أن نص م /27/ من نظام المحكمة تسقط الحصانات الرسمية التي يتمتع بها أي مسؤول- ولو كان رئيس دولة- في حال ارتكابه إحدى الجرائم الواردة في اختصاص المحكمة.. إلا أنه وعطفاً على ماتقدم من أسباب ( عدم مصادقة السودان على نظام المحكمة.. وإحالة مجلس الأمن لملف دارفور للمحكمة مشوب بالبطلان) فإن هذا القرار تعرض لرمز من رموز الدولة الوطنية والسيادية وهوملاحقة رئيس الدولة.. ومفهوم السيادة الوطنية- بكل عناصره، ورموزه- لايقبل التجزئة ولا التنازل ولا التصرف به، وإذا أخذنا بعين الاعتبار بعض الوقائع القانونية والأحكام القضائية الدولية كقضية «ياروديا» وزير خارجية الكونغو ورأي محكمة العدل الدولية الاستشاري من أنه لايجوز ملاحقة أي مسؤول حكومي عن جرائم متهم بها طالما هو يمارس سلطاته الدستورية.. وذلك اعتماداً على واقعة رفض القضاء الجنائي الأميركي في عام1987 الدعوى التي تقدم بها محامو الحكومة الليبية ضد الرئيس الأميركي ريغان وإدارته بتهمة العدوان على ليبيا وسيادتها.. بحجة أن الرئيس الأميركي المتهم لايزال يمارس سلطاته السيادية.. فهذه الوقائع والأحكام القضائية ما يدحض مشروعية قرارملاحقة الرئيس السوداني.. لأنه لايزال يمارس صلاحياته الدستورية والسيادية.‏

4- اعتماداً على نص المادة 53 الفقرة /ج/ من نظام المحكمة- حيث تتقدم- ولأسباب واقعية وعملية- مسائل المصالحة الوطنية في الدولة التي تُرتكب فيهامثل هذه الجرائم، على مسائل العدالة الجنائية.. وفقاً لمعايير التناسب والوفاق الوطني داخل الدولة.. وسلامتها الإقليمية وعدم تعريض وحدتها الوطنية للخطر والانقسام والانزلاق للحرب الأهلية.. وهذا ماينطبق على السودان الذي حاولت قيادته وحكومته وإلى حد بعيد تحقيق الوحدة الوطنية والقضاء على الفتنة الداخلية وعلى التدخلات الأجنبية.. ولذلك فقرار المحكمة بتوقيف البشير وملاحقته يهدد الوحدة الوطنية السودانية.. ويخفي في حقيقة الأمر أهدافاً استعمارية وسياسة تستهدف زعزعة الاستقرار الداخلي لهذا البلد بغية تقسيمه والسيطرة عليه وعلى ثرواته.‏

5- اعتماداً على نص المادة /124/ من نظام المحكمة .. التي تقضي بأنه يحق للدولة التي تنضم إلى المحكمة وتصبح دولة طرفاً فيها، أن تعلن تحفظها على سريان اختصاص المحكمة تجاهها بخصوص جرائم الحرب لمدة سبع سنوات من تاريخ تصديقها على نظام المحكمة.. فإذا كان الأمر كذلك، بالنسبة للدولة التي ترغب بالانضمام إلى المحكمة أن تعلن هذا التحفظ- لأسباب مختلفة- فهذا الأمر يكون متحققاً بالنسبة للدول غير الأطراف- ومنها السودان من باب أولى.. .. من جملة ماتقدم نرى عدم مشروعية قرار المحكمة الجنائية الدولية باتهام وملاحقة الرئيس السوداني عمر حسن البشير.. ونؤكد على حقيقة أننا مع العدالة الجنائية الدولية التي تتفق مع معايير القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تساهم في إرساء السلم والأمن الدوليين بالحفاظ على سيادة الدول واستقلالها الوطني. أما العدالة الجنائية الدولية «المسيسة» والتي تأخذ بمعايير مزدوجة وانتقائية فهي مرفوضة وغيرمشروعة وغيرمقبولة إطلاقاً.‏

أستاذ القانون الدولي‏

نائب عميد كلية الحقوق للشؤون العلمية- جامعة البعث naythamp@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية