|
شؤون سياسية لم تكن العملية وليدة ساعتها أو وليدة قرار اتخذه الرئيس ساركوزي بمفرده، بقدر ماهي محصلة لسلسلة من الخطوات، حيث تفيد مصادر فرنسية رسمية أن فرنسا قررت العودة تدريجياً، وبالتوازي مع سلسلة طويلة من المفاوضات مع (الحلفاء) وخصوصاً الولايات المتحدة، وتعود البدايات الفعلية إلى التعاون العسكري مع الأطلسي سنة 1990، بعد اجتياح العراق للكويت مباشرة، عندما قرر الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران الإنخراط إلى جانب الولايات المتحدة في حرب «عاصفة الصحراء» التي اندلعت في مطلع عام 1991، ومن ثم المشاركة في مراقبة المناطق الآمنة في شمال وجنوب العراق، وقد كان ميتران يفاوض للعودة على أرضية أن المهمة القديمة للحلف قد انتهت، ولأنه لم يعد لديه عدو مع انهيار جدار برلين، لابد من إعادة هيكلته على أساس جديد، بما يتيح بناء عمود للدفاع الأوروبي داخله، ونقل مركز القيادة العسكرية، ووضع آليات للعمل في أوقات السلم. وقد جرى في المحصلة النظر إلى مقترحات الرئيس الفرنسي الأسبق، على أنها عبارة عن تصور شامل يؤدي إلى تغيير في طبيعة حلف شمال الأطلسي، وانهاء الهيمنة الأميركية على مقدرات الحلف. ولكن المفاوضات التي قادها ميتران لم يكتب لها النجاح لسببين: الأول: حماسه لقضية الدفاع الأوروبي، وضرورة إعادة هيكلة الحلف الأطلسي وتأسيسه على قواعد جديدة. والثاني: عدم مرونة الجانب الأميركي، لكن ذلك لم يمنع من قيام أول تعاون جاد وملموس من أجل وضع حد ونهاية لحرب التطهير العرقي في البوسنة والهرسك بين عامي 1991-1995 عندما شاركت فرنسا عسكرياً في قوات الحلف لاستحداث المناطق الآمنة، وكانت أول مشاركة للطيران الفرنسي تحت قيادة حلف الناتو عام 1993 لحماية المنطقة الآمنة في البوسنة. ويرى وزير الخارجية الأسبق هوبير فيدرين ومدير الإليزيه في زمن ميتران أن التقارب الذي قام بين الجمهورية الفرنسية وحلف شمال الأطلسي في تلك الفترة، «لم يكن أيديولوجياً وإنما قام على أساس براغماتي، لكنه كسر الجليد ومهد الطريق، رغم أن رؤية فرنسا للأطلسي لم تتغير من حيث المضمون». خلال السنة الأولى من حكم الرئيس السابق جاك شيراك برز الحضور والمشاركة الفرنسيان على صعيد الحلف الأطلسي في صورة كبيرة، وتجلى التعاون بقوة وفي صورة واضحة خلال نزاع البلقان، وبدأت خطوات التنسيق تكبر حتى إنه في عام 2004 كان هناك أكثر من مئة ضابط تنسيق وارتباط فرنسي، يداومون بصورة منظمة في قواعد ومقار ومؤسسات الحلف عبر العالم، من بلجيكا إلى البرتغال إلى المقر الرئيسي في الولايات المتحدة الأميركية، ومع نهاية عهد شيراك ووصول ساركوزي إلى قصر الاليزيه كانت فرنسا تشارك بفعالية وقوة في كافة العمليات الرئيسية للحلف وخصوصاً في افغانستان وكوسوفو والبوسنة. خلاصة القول إنه رغم قرار ساركوزي الذي يشكل نهاية «الاستثناء الفرنسي» فإنه جرى النظر منذ بداية الثمانينات من القرن المنصرم إلى أن غياب فرنسا العسكري عن الحلف وقيادته أمر لا مبرر له. طالما أنها حاضرة على بقية الأصعدة، وتؤدي التزاماتها كاملة، ورأت أوساط دبلوماسية وعسكرية فرنسية أن هذا الموقف ليس في مصلحة فرنسا، وهذا ما استند إليه ساركوزي لتبرير قرار العودة إلى الحلف، في خطابه الذي ألقاه في «المدرسة العسكرية» في الحادي عشر من الشهر الحالي، وقال: نحن نضع حياة جنودنا على المحك، ولا نشارك في وضع الاستراتيجية التي تحدد مهمتهم ، واعتبر أن فرنسا سوف تصبح أكثر قوة وتأثيراً، لأن الغائبين دائماً على خطأ. قرار الرئيس ساركوزي لم يمر دون انتقادات واسعة وجدل حزبي برلماني فقد جرى تنظيم جلستين للبرلمان من أجل مناقشة القرار دون التصويت عليه. وقد أراد ساركوزي بذلك أن يلعب البرلمان دوراً أساسياً في إلقاء الضوء على هذه الخطوة، وخاصة أن قرار الإنسحاب سابقاً قد تم بموافقة البرلمان. - ومن جملة الشروط التي اشترطها الرئيس الفرنسي منذ أكثر من عام عودة فرنسا إلى القيادة المشتركة العسكرية للحلف بتعزيز الدفاع الأوروبي، وتحت ذريعة أن الكوكب يتحول إلى أرض بلا حدود. في التاسع عشر من الشهر الماضي طالبت أكثرية ضئيلة من النواب الأوروبيين أن يصار إلى «شراكة وثيقة أكثر» بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في مجالات الارهاب، والجريمة المنظمة ومخاطر الشبكة الافتراضية وتدهور البيئة والكوارث الطبيعية. وجرى توضيح التبرير في صورة استعارة أنيقة، أن الاتحاد الأوروبي دون بعد عسكري ليس سوى كلب ينبح دون أن يعض. ونظراً لكثرة التبريرات التي ساقها النواب يفهم المرء أن الدفاع الأوروبي المشترك، هو فقط الذي سينتظم في اطار اطلسي، والذي يمزج بين المهام المدنية والمهام العسكرية. ضمن هذا السياق شهدت الفترة الماضية الكثير من المؤتمرات والندوات حول العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ولكي يرد الرئيس الفرنسي على الانتقادات التي وجهت للقرار والتي تقول إن عودة فرنسا سوف تقضي على أمل قيام دفاع أوروبي مستقل عن واشنطن، فقد تكثفت الجهود خلال النصف الثاني من العام الماضي أثناء فترة رئاسة فرنسا للاتحاد. ويرى الكثير من الأوروبيين أن شرط الشراكة مع الأطلسي، هو تعزيز سياسة الأمن والدفاع الأوروبيين، وهو ما ردده ساركوزي في الخطاب، ومن هذا المنطلق عمل الاتحاد خلال العام الماضي على تحقيق جملة من الخطوات لجهة إقرار برامج لتعزيز التعاون بين الدول الأوروبية في مجالات التدريب، وتبادل المعلومات وتعزيز الامكانات اللوجستية، ودعم الوكالة الأوروبية للدفاع، من أجل التوصل إلى قدرات دفاعية مرنة وقوية، تسمح بنشر ستين ألف جندي في غضون شهرين، في إطار تنفيذ عمليات طوارئ كبيرة عبر العالم. وعزت الرئاسة الفرنسية لنفسها القدرة على اقناع الشركاء الأوروبيين في الانخراط بجهود تعزيز السلام في العالم، في ظل عدم قدرة الأمم المتحدة على تحقيق ذلك، ومن ذلك نشر قوة عسكرية ومدنية خلال العام الماضي في كل من تشاد وإفريقيا الوسطى «يوفور» هدفها حماية المدنيين النازحين من دارفور و«نصف مليون»، كما قام الاتحاد الأوروبي بنشر بعثة مدنية في كوسوفو في اطار سياسة الدفاع والأمن الأوروبية المشتركة. والمهمة الأخرى التي قام بها الاتحاد الأوروبي تحت الرئاسة الفرنسية، هي نشر 300 مراقب أوروبي من 21 دولة في جورجيا وهي تعد الأسرع وتم انجازها خلال اسبوعين، وسمحت بالانسحاب الروسي وعودة اللاجئين وبدء «عملية جنيف» كما رفع الاتحاد عدد العاملين في بعثاته المدنية في افغانستان وأطلق في نهاية العام الماضي عملية «يونافوراتلانتا» لمكافحة القرصنة على السواحل الصومالية وفي خليج عدن، وهي المهمة البحرية الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي. |
|