تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ماذا جرى للدنيا..؟

آراء
الأثنين 6-4-2009
جلال خير بك

عن أي أفق تبحث الكائنات الحية وهي محاصرة طوعاً ومحكومة بأقاليم لا تعد ولا تحصى؟؟ عن أي مخرج تبحث وهي محاطة بسواعد من حنان! واعتصار لتبقى هادئة والزمن يمر دون أن تدري بدايته من نهايته؟؟ عن أي مدى تفتش بين الصباح والمساء ولا بارقة أمل تلوح؟! ...

هنا يتحد المصير بالمجهول وتتبارى الصباحات والمساءات لتبدع أفقاً من سؤال واستفهام وتمضي إلى حيث اللاشيء!‏

في عتمة الطريق كانت الشموع رداء للبحث وابتهالاً للقادم الذي لا يأتي.. لكنها ضاعت في زحمة الكهرباء والبهارج ووهج الأنوار التي تعمي الأبصار حتى لا تستطيع أن ترى سوى اللحظة الراهنة والمكان نفسه! أما ما وراءها، فعالم لا تبين ملامحه ولا تفصح تضاريسه عن الماهية التي تلف كل شيء!!‏

هنا وجد الكائن نفسه ملفوفاً باللا جدوى ومحاطاً بسر الفرحة الخالصة إذْ لا تأتي ولا تقترب منه عن بعد وعن غير بعد!!... وتتوالى الصباحات والمساءات وكل شيء حوله ما زال رداء من (سيلوفان) بشرائط لا تبدي محتوى ولا مكنوناً!... وحين يتجرأ على افتضاضها تبزغ في وجهه شموس كالنار وصباح كاللهيب ، فلا رؤية ولا رؤى ولا حلماً ولا تيمناً يزحزح ثقل المكان ووهج اللحظة الغادرة التي صارت قدراً أبدياً!!‏

في عالم تتناهبه أنياب الذئاب، لا مكان للأحلام والآمال، ولا موطئ قدم إلا للفاسدين والمتزلفين ومتسلقي السلالم على جثث الآخرين! ولا مكان للنظيفين إلا الحفر والفاقة ومضغ الآمال التي لا تأتي!!‏

ماذا حدث لهذا العالم الذي لم يعد يشبه نفسه؟.. ماذا حدث للناس إذْ لم يعودوا يعرفون الشبع ولا يؤمنون إلا بالمزيد الذي يأتي كيفما اتفق وبأي وسيلة كانت!.. ماذا حدث للإخاء وتلك الرايات التي كانت تخفق للإنسانية والوفاء؟!.. ذلك كله صار من منسيات الماضي.. وبات عالم اليوم أرضاً يباباً تحرثها أنياب الطمع والجوع للمزيد، فلا تنتج إلا يبابا لا يعرف طعم ورائحة الياسمين والورود، ولا لذة القمح ولقمته المغمسة بالعرق والنار... أرض لم تعد تعرف الخضرة ورائحة أزهار الربيع... أرض لم يعد فيها فصول ولا مياه وأمطار، فإما هي صقيع وزمهرير جاف، وإما لفح القيظ والشواظ.. أرض لم تعد فيها أشياء وسطى بل هي في أعلى القمة على هام الجثث أو هي في الحضيض!!‏

ماذا جرى للدنيا؟... كل شيء فيها تغير.. فالبشر صاروا على عدد حبات الرمال، ومخزون الأرض لم يعد يكفي من هم فوقها... وماذا جرى للبشر حتى قسموا العالم شمالاً وجنوباً ودولاً متقدمة ودولاً متخلفة، يعيش بعضها على دماء البعض الآخر: والكل يدفع ضريبة التقدم التكنولوجي وليس ضريبة الحضارة، فالأنياب البارزة من الشمال نسيت كل الحضارة، فما بالك بالرقي الإنساني الذي تولده الحضارة في نفس الإنسان؟!.. إنهم يسمون ذلك (صراع الحضارات) وقد ضربوا صفحاً عن تسميته (حوار الحضارات)... فالحضارات حين تتحاور وتقبل الآخر تغني الكون ببشره وشجره وحجره، وتشيع في هذا الوحش الذي كان اسمه الإنسان روعة الكشف وسمو الروح الإنسانية ومداها الواسع، وتخلق في الكائن أسمى الأخلاق بدلاً من البهيمية التي تعطل كل طاقاته!‏

ماذا جرى للدنيا؟؟.. لم يعد الأخ يبحث عن أخيه ولا الأب عن بنيه، بل صار الجميع مدفوعين بشهوة الامتلاك والسيطرة، فخربت العالم حروب لا تنتهي.. ومزقت الروح الإنسانية حراب الجشع والتسلط... واستحل الإنسان (المتحضر) دم أخيه الإنسان!!. وصار عنوان (الحضارة المعاصرة)! شهوة القتل وامتصاص الدماء.. واستعباد البشر لبني البشر... وسيطرة القوي على الضعيف كما في الغابة، رغم أن الوحوش إذا شبعت لا تؤذي أحداً!... بعكس الإنسان الذي لا يعرف الشبع، ولا يعرف إلا المزيد من الحروب وإراقة الدماء وقتل النفوس التي كانت الأحلام تحيي روحها وتمدها بزخم الصبر وروعة الأمل.‏

كانت الحروب القديمة قائمة على الوسائل القديمة إن لم نقل: البدائية... لكن حروبهم اليوم منبعثة من خلاصة الكشف الذي قدمه العلم للعالم ليحيا الإنسان رغيداً في ظلاله ويعرف معنى الرفاهية في ظلال المنجز العلمي... لكنهم حولوه إلى أداة قتل وإبادة، فقتلوا به الإنسان قبل الحيوان ليمتصوا دماء وثروات أرضه وخيراتها... وليستعبدوه بدل أن يبحثوا له عن فضاءات الحرية وجمالها الأزلي.‏

إن الأمم التي تعنو اليوم للآلة وقدرتها التدميرية اللامحدودة: لاتملك بتخلفها إلا الصبر وكثرة الجراح.. ولا تملك إلا نظرات الأسى على أخيها الإنسان الذي تحول إلى وحش ما بعده وحشية ونسي فيما نسيه عبر شهوة القتل والاستعباد: روح الإنسانية التي أنجبته وأعطته مقدرة التقدم والتفوق كي يسعد أخاه الإنسان... نسي ذلك ونزعة القتل وسيطرة الأنياب تسحبه من نعيم بني البشر إلى حضيض الروح القاتلة التي تتفوق البهيمية فيها على روح الإنسانية التي وئدت منذ دهور طويلة.‏

ماذا يحدث للإنسان في كل مكان؟؟ وماذا حل بروحه ومشاعره النقية؟؟ وإلى أي درك وصل؟ ومتى يستطيع الصمود في النفوس الصابرة أن يعيد للإنسان روحه الأولى؟ تلك التي ما زال البشر ينتظرونها ولن يبزغ فجرها أبداً!‏

طوبى للإنسان هنا وهناك الذي لم يعرف بعد أن الدنيا لا تؤخذ إلا غلاباً... وأن الروح الإنسانية التي انتظرها طويلاً سوف لن تأتي كما يشاء فتزرع له أفاقاً خضراء وتمنحه جنات ليس مثلها في تلك الآفاق!‏

طوبى لعالم الصابرين بغباء الذين ما زالوا يظنون أن الغد ملكهم وأن كل واحد منهم سيحصل على حقه في الحياة ومقوماتها.. طوبى للغفلة والقلوب النظيفة إذ لاتزال فريسة مشتهاة لتلك الأنياب التي لا تعرف إلا التمزيق وامتصاص الدماء.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية