|
ثقافة هذا الاستهلال يقودنا إلى طرح سؤال آخر: ماذا لو سمعت عن كتاب لن تستطيع قراءته ولن تحصل عليه؟ ولكن يكتب الكثير عنه ويقال الأكثر، معلومات متداولة على الألسن وفي صفحات الكتب ولكن ماذا عنه، إنه غير موجود بل لنذهب في السؤال أكثر: ماذا لو سمعت بكتاب لم يؤلف، لكن ثمة من يروي معطيات منه نقلاً عن شخص كان يزمع أن يؤلفه لكنه لم يفعل؟. هذه التساؤلات يمكن أن نجد إجابات عليها من خلال المحور الذي خصصته مجلة «القافلة» للحديث عن هذه الكتب. أحرقت حدثنا التاريخ عن حرائق التهمت آلاف الكتب على مر العصور وفي مختلف الثقافات ويخنقنا هذا الدخان المنبعث من مكتبات بغداد التي سقطت في أيدي المغول ومن مكتبات الأندلس عند جلاء المسلمين عنها إذ لم ينج من ألسنة اللهب سوى القليل الذي تم تهريبه إلى خارج المكتبات. والواقع أن الحروب على مر التاريخ كانت تلتهم الكتب بالشراهة نفسها التي التهمت بها ضحاياها من البشر وصولاً إلى العصر الحديث، إذ يروي لوسيان بولا سترون مؤلف كتاب «كتب تحترق» أن الحرب العالمية الثانية أبادت عدداً لا يحصى من المكتبات ويذكر أن غارة على طوكيو أدت إلى حرق /220/ ألف كتاب في المكتبة العامة خلال ساعة واحدة، غير أن حرائق ما قبل عصر الطباعة كانت أخطر من غيرها لأنها كانت تلتهم المخطوطات والنسخ القليلة من الكتاب الواحد ولذا فإن الأكثرية الساحقة من مؤلفات كبار العلماء العرب التي وصلتنا كانت عبارة عن نسخ من كتبهم، في حين أن النسخة الأصلية التي خطها المؤلف بقلمه ضاعت أو أتلفت. لم تكتب يذكر ستيورات كيلي أن المؤرخ إدوار جيبون صاحب الكتاب الشهير «انحدار وسقوط الامبراطورية الرومانية» اكتشف أن أحد فراعنة مصر كان صاحب انجازات في علم الزراعة أدت إلى اختراع الهندسة ومما لا شك فيه أن باحثاً معروفاً برصانته وجديته ما كان ليطلق مثل هذا الحكم لولا امتلاكه بعض المعارف والملاحظات التي تسمح بذلك وسواء كانت هذه المعارف قد ظلت شفهية (على الرغم من وجود بعضها مكتوباً هو الأرجح) فإننا لم نقرأ كتاب جيبون حول هذا الموضوع لأنه لم يكتبه أصلاً بل ظل مشروعاً في ذهنه. أيضاً خاتمة كتاب تشارلز ديكنز «لغز أدوين برود» فقد نقل الرواة من القرن التاسع عشر أن ديكنز عرض على الملكة فيكتوريا أن يكشف لها عن نهاية الكتاب لكن الملكة ماتت قبل أن تعرف النهاية التي بقيت في ذهن ديكنز ولم يكتمل كتابه. عامل آخر من عوامل فناء الكتب يبدو أكثر إيلاماً ما تحدث عنه الكاتب السعودي ناصر الحزيمي في كتابه «حرق الكتب في التراث العربي» فيقول: إن بعض الكتاب كانوا يعمدون إلى غسل ورق المخطوطات للاستفادة منه مرة أخرى ويبدو الأمر مؤلماً أكثر عندما يقوم الأبناء بالتخلص من الكتب التي ورثوها عن آبائهم لأنهم لا يهتمون بموضوعاتها ولا يدركون قيمتها ومن الحوادث الشهيرة أن الروائي والشاعر الفرنسي فيكتور هوغو جمع عدداً كبيراً من قصائده المخطوطة في حزمة ضخمة استعداداً لإرسالها إلى النشر لكن أولاده أخذوها في غفلة منه ولعبوا بإحراقها في المدفأة وضاع هذا الكنز الشعري إلى الأبد لأن الشاعر لم يكن يحتفظ بنسخ أخرى عن هذه القصائد. وكتب ابن رشد التي كتبت أصلاً بالعربية أحرقت كلها في قرطبة أما محتواها فقد وصلنا بفضل إنقاذ ترجمات لها إلى اللغة اللاتينية. وأحرق أبو حيان التوحيدي كتبه في أواخر عمره لقلة جدواها وضناً بها على من لا يعرف قيمتها بعد موته. المؤرخ جواد الرمضان صاحب كتاب «مطلع البدرين في تراجم علماء الإحساء والقطيف والبحرين» يقول: «كانت الناس قديماً تضع المصاحف القديمة والأوراق التالفة في الكهوف حفاظاً عليها من الضياع والعبث بعد أن تنقل من محاريب المساجد، إذ كان الناس يضعون كل ورقة مقطوعة من القرآن الكريم عند محراب المسجد ونظراً لقلة الذين كانوا يعرفون القراءة كان الناس ينظرون إلى كل الأوراق المكتوبة سواء أكانت من القرآن أم من غيره بمهابة واحترام وعندما كان يمتلئ محراب المسجد كانوا يرفعون الأوراق ويضعونها في مكان معين في كهف جبل القارة أو يتم تذويبها في عيون الاحساء». مجرد مقارنة اليوم نقف على أطلال الكتب المفقودة نبكيها ونتمنى لو أنها وصلت إلينا، ترى ماذا لو كانت موجودة هل كنا سنهملها؟ وهل سنفتقد في هذه الأيام أي كتاب في عصر التوثيق والمعرفة ويبقى للحبر مع الورق طعمه ودهشته. |
|