|
صفحة ساخرة تقول هذه الحكمة: إن الحياة مهما طالت ستنتهي، وهي في النتيجة قصيرة، وأنت تستطيع أن تمضيها مرحاً مفرفشاً مشروح النفس مغنياً على ليلاك، وتستطيع إذا شئت أن تمضيها في المشكلات والنكد والقال والقيل، وتبقى طيلة الوقت غاضباً قانطاً مكفهراً عابساً يكاد بوزك أن يصل إلى سرتك! ولتوضيح هذه الحكمة عرفني في آخر زيارة له على جار له في الدكان اسمه أبو مسعود. هذا الشخص عابس على الدوام، وعيناه شاردتان وكأن عقله يقوم بإجراء عمليات حسابية لمعادلة رياضية معقدة، وقد همس لي أبو عمر محذراً إياي من عدم التمعن في وجهه، لئلا تنتقل حالته الكئيبة إليّ بالعدوى، فالكآبة تعدي الآخرين، وكذلك البشاشة. وكانت نتائج البكالوريا قد ظهرت في تلك الفترة، وكان ابن أبي مسعود قد رسب في السنة الماضية، وأعادها في هذه السنة فنجح بعلامات قريبة من علامات الحدود الدنيا، فسألت أبا عمر عما إذا كان أبو مسعود مكتئباً بسبب علامات ابنه القليلة، فقال لي: هذا وجه الوكالة! ووالله العظيم الباري المقيم لو أن ابنه حصل على مئتين وستين علامة من مئتين وستين لما اختلف شكل وجهه بمقدار ملمتر واحد! وقال لي بعد انصراف أبي مسعود وجلوسنا أمام الدكان وأمامنا إبريق شاي خمير:إنني منذ صغري أبغض الحياة الرتيبة، وأعتبرها سيئة لأبعد الحدود، ولأجل ذلك تراني أباغت أم عمر بالمقالب والمزاح، وهي تفعل الشيء نفسه معي، فنضحك وننبسط. قلت: مؤيداً لفكرته: وفي الوقت ذاته يشعر المرء بالتجدد. قال: على ذكر التجدد ما رأيك أن أحكي لك حكاية ظريفة؟ قلت: يا ليت. قال: قبل خمسين سنة- يا أستاذ- كان والدي على قيد الحياة، وكنت أنا شاباً في العشرين من عمري تقريباً. وكانت دكاننا في الساحة التحتانية، وكنا نذهب كل يوم في الساعة السادسة صباحاً لنفتحها ونسترزق الله، وكان كل أصحاب الدكاكين يفتحون دكاكينهم في الموعد نفسه تقريباً. وفي يوم من الأيام غادر والدي الدكان لسبب ما، وأنا خطرت ببالي فكرة جهنمية، نفذتها في العجل إذ اتفقت مع عدد كبير من أصدقائي الذين يمتلك آباؤهم دكاكين في الساحة على أن نلعب لعبة لم يسبق لأحد في العالم أن لعب مثلها. ملخص اللعبة هو التالي: كل واحد من الشبان يذهب إلى بيته بعد العشاء، أي بعد أن تكون الدكاكين كلها قد أقفلت ويسرق مفتاح الدكان من جيب أبيه، ثم يتذرع بذريعة ما ويأتي إلى دكاني حيث سنجري اجتماعاً على قدر كبير من الأهمية. نفذ الأصدقاء الخطة بحذافيرها، وحينما أصبحنا في الدكان أتيت بعلبة خشبية متوسطة الحجم وطلبت منهم أن يضعوا المفاتيح اعتباطياً في جوفها، وبعد ذلك حملت العلبة وهززتها هزات متلاحقة لأجل أن تختلط المفاتيح ببعضها ويصبح من رابع المستحيلات فرزها أو التعرف إليها، ثم أخذ كل واحد منهم مفتاحاً لا على التعيين وتسلل في الليل إلى حيث يعلق أبوه ثيابه ووضع المفتاح في جيب أبيه ومضى إلى فراشه ونام. في الصباح الباكر وقع في الساحة ذلك الفصل التاريخي الجميل حينما أخرج كل صاحب دكان المفتاح من جيبه وبدأ يعالج القفل فلا يستجيب له فيقول لنفسه: بسم الله الرحمن الرحيم؟ أليست هذه دكاني؟ أليس هذا مفتاحي؟ أليس هذا قفل دكاني. ويلتفت ليرى جاره يعاني من المشكلة ذاتها وما هي إلا ربع ساعةحتى اختلط الحابل بالنابل وشرع كل واحد يطلب من جاره أن يعيره مفتاحه ليجربه على قفل الدكان. مضت نحو ساعة أو أكثر والآباء يتبادلون المفاتيح فيما بينهم ويسمون بسم الله الرحمن الرحيم ويجربونها على الأقفال، ونحن الشبان نعاونهم ونضحك في سرنا حتى نجحوا أخيراً في فتح الأبواب. الغريب في الأمر أن أبي سر كثيراً حينما صارحته بحقيقة ما جرى بموضوع المفاتيح، واعترف لي أن الفكرة جميلة. والآن يا أستاذ بعد كل هذه السنين نسينا الأيام العادية التي كنا نفتح فيها دكاكيننا بسهولة وبقي في ذاكرتنا يوم المفاتيح. |
|