|
آراء على مدى يومين 10-11 آب امتدت الندوة المميزة بعنوان (الطيب صالح في الذاكرة) وكل مبدع قدم شهادة لاتزيد عن عشر دقائق عن الطيب صالح، وتراوحت هذه الشهادات بين التركيز على أدب الطيب صالح وتحديداً رائعته موسم الهجرة إلى الشمال، وبين شخصه كمبدع رقيق وخجول وبعيد عن الأضواء ومتواضع، ومسكون بحب وطنه، واتفق الجميع أنه من أوائل الكتاب العرب الذين أشاروا إلى علاقة العالم العربي مع الغرب تحديداً علاقة العالم العربي الإفريقي مع الغرب. وتأتي روعة هذه الندوات وغناها، ليست لأنها تجمع كوكبة من المبدعين والمفكرين العرب في قاعة ليتحدثوا عن الطيب صالح، بل لأنها تزيل العزلة الثقافية بين هؤلاء الكتاب، حيث يتم لقاء كتاب من السودان والمغرب وسورية ولبنان وفلسطين والعراق، والإمارات مع بعضهم البعض بما يدور بينهم من حوارات غنية وانفتاح على الآخر وفرص تعارف ماكانت لتتاح لولا ندوات بمثل أهمية منتدى أصيلة الثقافي.. ومن باب الإنصاف يجب أن أشير للجهد العظيم الذي يبذله الأستاذ المبدع محمد بن عيسى، إذ إنه كان يتابع الندوة من أولها إلى آخرها، ويبدؤها بقراءة غنية تحليلية عما سيدور من نقاشات ومداخلات ولم يبد عليه أي تعب أو إرهاق بل كان منشرحاً وكريماً مع ضيوفه دوماً، مهتماً براحتهم ورفاهيتهم .. إنه الإنسان الحقيقي المبدع الذي ينطبق عليه المثل الصيني: إذا أحببت شخصاً فاهده وقتك.. لأنه أهدى كل وقته لضيوفه. ثمة شهادات أحسستها مؤثرة جداً لصدقها وخصوصيتها مثل شهادة الروائي الجزائري واسيني الأعرج، الذي قال إنه لايشعر أن الطيب صالح قد توفي لأنه يقرأ دوماً كتبه ويحس بوجوده كما لو أن الموت مجرد تذكر عابر أن الآخر قد غاب، أما في الحقيقة فالمبدع باق بكتبه وروحه كذلك شهادة الروائي المبدع يوسف زيدان الذي أشار إلى نقطة مهمة جداً هي ضرورة الاهتمام بالأدباء الشباب. أما مداخلتي فكانت أن الطيب صالح أول من لفتني بروايته موسم الهجرة إلى الشمال إلى العلاقة مع الغرب وقد بدأت أتتبع هذه العلاقة في أعمال أدبية عديدة، وأكثر ما أدهشني التوازي المدهش في العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب، بين رواية الوله التركي لأنطونيو غالا، ورواية موسم الهجرة إلى الشمال وإن كنت لا أستبعد أن يكون غالا قد قرأ الترجمة الاسبانية لرواية موسم الهجرة إلى الشمال لأن الروايتين تستندان إلى ذلك الحقد المبطن بالإعجاب للغرب، الغرب الذي أعطانا التفوق العلمي والمعرفي وفتح لنا أبواب المعرفة والحرية لكنه أيضاً الغرب المستعمر، فمصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال، والشاب التركي بطل رواية الوله التركي لأنطونيو غالا، ينتقمان من الغرب المستعمر عن طريق الإذلال الجنسي للمرأة الأوروبية كوسيلة انتقام من المستعمر. لايمكن تلخيص أو عرض أكثر من أربعين شهادة لكن كل مبدع أضاء جانباً في أدب وشخص الطيب صالح وهناك شهادات نقدية رائعة من الأستاذ صلاح فضل، والأستاذ محمد برادة، والصحفي عبد الوهاب بدرخان. وتميز الحضور الأوروبي أيضاً مثل حضور مارغاريت أوبانك محررة مجلة بانيبال ومداخلتها الهامة عن الطيب صالح كذلك الشهادة المميزة للسيدة ريجينا قرشولي مترجمة أعمال الطيب صالح إلى الألمانية، وقد قرأها نيابة عنها زوجها المترجم المبدع عادل قرشولي الذي ترجم معظم قصائد محمود درويش إلى الألمانية. وأعتقد أن مهرجان أصيلة هذه السنة له خصوصية كبيرة، ليس لأنه تكريم للطيب صالح في ذكرى رحيله، بل لأنه تزامن كذلك مع الذكرى السنوية لرحيل المبدع الفريد محمود درويش وقد نظم السيد محمد بن عيسى ندوة عن محمود درويش شارك فيها عشرات النقاد والكتاب والشعراء ولكن قمة التأثر والتوهج كانت بحضور مارسيل خليفة خاصة ليحيي حفلة بمناسبة رحيل درويش وقدم فيها أربع أغان جديدة لحنها من قصائد محمود درويش وإحدى هذه القصائد تحكى عن قصة حب شفافة ومرهفة عاشها محمود درويش وكان في البداية معارضاً أن يغنيها مارسيل لكنه سمح بذلك بعد عام، أي بعد أن انتهت قصة الحب.. إنه مشهد لاينسى أبداً مارسيل عملاق الموسيقا والإحساس بطلاً مطلقاً على المسرح يضع اللفحة الخضراء الطويلة كما لو أنها رمز الخضار والحياة والأمل، ويغني مغمض العينين هائماً في تقاسيم عوده وسحر شعر درويش والجمهور الذي غصت به القاعة، حيث كان عدد الواقفين ينافس عدد الجالسين والكل تحول إلى قلب واحد، قلب كبير ينبض بالحب ليس لمحمود درويش ومارسيل خليفة، والطيب صالح بل لكل ماهو أصيل وحقيقي وإبداعي. كل الجمهور كان يملك قلباً واحداً مترعاً بالأحاسيس الجميلة الراقية، وتعبر الرؤوس فكرة واحدة يمكنك أن تقرأها على الوجوه وهي إن مايغني الحياة ويعطيها غايتها وروعتها ويجعلها تستحق أن تعاش هو الفن، الأدب والموسيقا والرسم، والفنون كلها، هي التي تشذب الأحاسيس وتنقي الروح من أمراض مجتمع الاستهلاك والشراهة للامتلاك والتنافس للربح المادي بكل أشكاله وصوره.. لقد قال أندريه جيد الفيلسوف الفرنسي الشهير: غاية الحياة هي الفن، وللوهلة الأولى تبدو هذه العبارة مبالغاً فيها، لكن لو تأملنا حياة البشرية منذ البداية لوجدنا أن الفن وحده والمبدعين وحدهم هم الباقون، وهم الذين صوروا لنا بإبداعاتهم تطور الحياة البشرية ،فلا أحد يتذكر اسم الحاكم الروسي أيام دوستويفسكي، لكن كل العالم يعرف عبقري الرواية الروسية دوستويفسكي. أعود لمهرجان أصيلة الذي كان منارة ثقافية وفنية عالية ومتكاملة لأنه احتفى بذكرى رحيل مبدعين عظيمين الطيب صالح ومحمود درويش ولأنه أتاح الفرصة لمبدعين عرب أن يلتقوا ويتبادلوا الأفكار ويخططوا لمشاريع، أوجه تحية إلى أصيلة الأصيلة .. والكريمة ، وإلى مبدع كريم النفس وواسع الأفق السيد محمد بن عيسى الذي لولا حماسته وإيمانه بدور الثقافة لما نجح مهرجان أصيلة سنة بعد سنة. وقد تم تدشين حديقتين خاصتين بالمبدعين الراحلين، حديقة حملت اسم محمود درويش وحديقة حملت اسم الطيب صالح. |
|