تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


السمكة آخر من يكتشف الماء

كتب
الأربعاء 16-9-2009م
أنور محمد

يرى «برتران تروادِك» عالم النفس الفرنسي والأستاذ المحاضر في جامعة «تولوز 2» أنَّ علم النفس الثقافي لا يعير اهتمامه للتصرُّف بل للفعل؛ الذي هو تصرُّف يمليه قصد أو حالات واعية قابلة للاستدعاء أو للحضور في التعبير.

وهذا الفعل يُسمَّى(الفعل المموضع) لأنه يتحقَّق ويرتبط بوسط اجتماعي وثقافي خاص. وطبقاً للتحديد الذي يقترحه عالم النفس»جيروم برونير» هو تصوُّر للنمو الإنساني الذي هو بنياني بما لا يقبل الشك, والبنائية مبحث علمي يتعارض بشكل رئيسي مع المبحث العلمي السائد الوضعية. إنه محاولة ترمي إلى تحديد ما يُعرف وما يُدرك من واقع العالم وكيف ينبغي العمل لبلوغ هذه المعرفة وهذا الإدراك. وهنا يمكن أن نشير إلى « جان بياجيه» الذي جاء بنظرية بنائية لتفسير النمو المعرفي معارضاً بذلك مذهبي الفطرانية التي تقول: إنَّ المعرفة تنتج عن حذف مركَّبات مفارقة موجودة داخل الفكر على العالم الخارجي, والتجريبية التي ترى أنَّ المعرفة هي انعكاس العالم الخارجي المفترض وجوده مسبقاً على حواس الإنسان. والمشكلة هنا أنَّ بنائية بياجيه هي بنائية واقعية تفترض وجود عالم مستقل مركَّب طبقاً لقواعد فريدة وشاملة, في حين أنَّ « جيروم برونير» يرى أنَّ من واجب البنائية الثقافية أن تعلن بطريقة مختلفة, وخلافاً للحس المشترك عدم وجود عالم فعلي فريد سابق الوجود ومستقل عن النشاط الإنساني ولغته الرمزية, فما تسميه العالم هو نتاج فكر باستطاعة إجراءاته الرمزية أن تشيد العالم, فاختيار المبحث العلمي البنائي في رأي» برونير « ليس بالاختيار الاعتباطي, إنه ملازم ومتَّحد بمفهوم الثقافة.‏

فاتخاذ الثقافة على محمل الجد يتضمن حكماً تبنِّي مبحث علمي بنائي, غير واقعي يبقى بعيداً عن متناول معظم علماء النفس إن لم يكن عن العلماء المعاصرين, فهؤلاء في الواقع ينطلقون بوجه عام من المسلمة الوضعية التي تفترض أن هنالك من ناحية ما فكراً أو نفسية قائمة بحد ذاتها. ويشير « جيروم برونير» إلى أنَّ عدداً كبيراً من علماء النفس المختصين بالمعرفة يسلِّمون بأنَّ الكائنات البشرية هي التي تبني عوالمها, ويميلون إلى الاعتقاد بأن هذه العوالم المشيدة تمثل العالم الحقيقي- أي العالم الموضوعي أو بحد ذاته. فبياجيه على الرغم من تبنيه النظرية البنائية لم يتجنب هذا الخطأ بواقع أنه تمسك بواقعية ساذجة. فالمشيدات تبقى في رأيه صور عالم حقيقي مستقل يتوجب على الولد الذي يكبر أن يتآلف معه. علماً بأن الكثيرين من علماء النفس العاملين في حقل النمو لا يزالون ينتهجون نهج البيئة الواقعية الذي تبناه بياجيه.‏

ثمَّ يأخذ ويؤكد برتران تروادِك على اعتراف «جيروم برونير» بأن الإرث الثقافي لكل كائنٍ بشري لا يمنعه من أن يبقى منفتحاً على مفاعيل الثقافة. وانطلاقاً من هذه القناعة انصرف برونير إلى دراسة»الوسائل» أو « الأدوات» الثقافية التي تستخدمها الكائنات البشرية لتمعين عالمهم, على أن الوسيلة الفضلى أو الأداة الأكثر ملاءمة للتعريف بعلم النفس الشعبي ونشره وفي رأي برونير هي «القصة» أي سرد حكاية. بمعنى أن القصة هي الصيغة المثلى التي يمكن أن تتخذها السيكولوجية الشعبية: ( نأمل, نؤمن, نتمنى, نريد, نخشى, ونفسر كل واحد بيننا بعبارات علم نفس شعبي) . والسبب الذي يجعل من القصة وسيلة نقل طبيعية لعلم النفس الشعبي هو أنها تعالج مادة الفعل والقصدية الإنسانية, فهي تشكل وسيطاً بين عالم الثقافة»المقونن» وعالم المعتقدات والرغبات والأماني المزاجي محولاً الاستثنائي مفهوماً ومبدداً ما يتضمَّنه هذا العالم المزاجي من غرابة وقلق, مذكراً بمعايير المجتمع دون أن يكون جدلياً. علماً بأنه يتيح الرجوع إلى علم البلاغة دون إفساح المجال للمواجهة, كما أن بإمكانه أن يعلم ويحفظ الذكرى أو يعيد صياغة الماضي. القصة إذن ( أداة بناء ثقافي) دون أن ننسى أنها قابلة للتحليل وللوصف, وكأنها إحدى الصيغ المنطقية والعلمية التي تستخدم في تنظيم المعرفة.‏

بعد ذلك يتساءل برتران تروادك: هل النمو المعرفي ثقافي الطابع؟. و يجيب: أجل. إنَّ النمو المعرفي نمو ثقافي, وعالم النفس الثقافي والثقافة يشبهان سمكة في الماء على أنَّ السمكة هي آخر من يكتشف الماء.‏

صادر عن دار الفارابي –‏

بيروت و مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم 2009 .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية