تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


خيري الذهبي محاضراً عن الزمن والعمارة في الرواية: مــــازلنـــــا متعــلقين بــزمــن مـــــا قبـــــل المدينــــــة

ثقافة
الأثنين 9-2-2009م
هناء الدويري

تحت عنوان /الزمن والعمارة في الرواية/ ألقى الكاتب والأديب خيري الذهبي محاضرة في المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى.

بدأ الحديث عن مكونه لمفهوم العمارة والزمن والتي بدأت بالقراءة سواء لألف ليلة وليلة والمقامات ذات الزمن الحلزوني والعمارة الزخرفية، أم للروايات المترجمة البوليسية وروايات الاثارة والمغامرات وكانت العمارة فيها صارمة جافة وظيفية مؤدية للمفهوم الأرسطي في الزمن .‏

أما ما يمكن أن يكون أهم مكون لعمارة وزمن الأديب خيري الذهبي فهو بساتين دمشق وحاراتها ما بين البساتين، عندما كانت دمشق لا تزال مدينة ريفية اختلط فيها الريف بكل غنائيته مع المدينة الوسيطة التي كانتها ، وهذا في خمسينيات القرن الماضي حيث قضى طفولته ومراهقته الأولى.‏

والحديث الآن لخيري الذهبي حيث يقول:‏

كانت الخيارات كثيرة وكان الزمن رحباً، وكان الخيال لا يزال نضراً، وهكذا أخذت مفاهيم كالعمارة، والزمن، والمكان، والشخصيات بمرجعيتيها الحضاريتين تنخلق في ذاكرتي الطفلة، فالمراهقة.‏

وحين أقرأ الآن روايتي المنشورة الأولى (ملكوت البسطاء) فأرى العمارة الغربية تماماً، عمارة مستعارة من لورنس داريل ، وفولكنر ، وربما من بعيد من جويس، وأقرأ الموضوع شديد المحلية، قرية شامية هي المزة تراقب وتعيش الحدث الأخطر في تاريخ بلاد الشام ربما منذ خمسة عشر قرناً، ترى انهيار دولة الخلافة الإسلامية، الدولة العثمانية، وترى تمزق المجتمع في تمزق ولدين واحد مستسلم تماماً للماضي والدولة العثمانية، والشرعية، والاستمرارية وهو طيب، تقي، مخلص، مشارك في كل الحروب والثورات ضد الغرب والآخر متكيف، متقلب، لا يؤمن إلا بنجاحه الفردي، وحصوله على مبتغاه الاقتصادي والاجتماعي، والجنسي ، لا يقف أمام العوائق الدينية، أو الأخلاقية ، أو الاقتصادية، قابل للتعامل مع كل الظروف، حتى مع قطع الطريق على الجيوش العثمانية المهزومة ونهبها، ما أمكن..ثم البدء في تشكيل ثروته الصغيرة، واستعادة ما كسب منه الأخ الصغير التقي معاناً ومدفوعاً بأمه، ولكن الماضي ينهزم، وفرنسا تنتدب، أو تستعمر حسب وجهة النظر، ويكون على العائد الضائع العاجز العاطل عن العمل أن يعود للعمل أجيراً عند الأول.‏

كانت العمارة في هذه الرواية قائمة على أصوات أربعة يقدم كل منها وجهة نظره في العالم وفيما جرى، وكان الزمان في هذه الرواية يضج بالمونولوجات الداخلية والاسترجاعات الزمنية، وتيار الوعي..كنت مخلصاً للبيئة الأدبية التي رباني عليها الأدب الغربي.‏

بعد سنوات وحين سأقرأ حواراً للروائي الراحل نجيب محفوظ فيسأله المحاور: من أين جئت بهذه الأسئلة الصارمة المعمارية في رواياتك؟ وأسمع جواب محفوظ المعتد بنفسه وبتاريخه يقول: لا تنس أني ابن لأولئك المهندسين العظماء الذين صنعوا الأهرام وأبا سنبل!!‏

وحين كنت أتأمل جوابه الرائع، كنت أفكر، ولكن نجيب محفوظ في هندسة رواياته كان ابناً للمعمار الغربي بأكثر منه ابناً للهندسة الشرقية الإسلامية في حلزونيتها، وزخرفتها ولا نهائية مآذنها، وانفتاح باحاتها على السماء، ثم أذكر ملحمة الحرافيش وهي مشروع ألف ليلة آخر في صناعتها الزخرفية وفي تكرار اللحن لخلق الحالة، ولكني أعود للتذكر بأن التصميم النهائي للرواية الملحمة كان تصميماً غائياً تماماً كالهندسة الغربية، أو حتى لنكن متعاطفين..الهندسة الفرعونية ، فقد كانت الهندسة الفرعونية في تصميمها الأخير أماً للهندسة الغربية خاضعة للمنطق الأرسطي أو ربما لما قبل الأرسطي، الهندسة الغائية، المقدمة الصغرى، فالنتيجة.‏

ترى ألم يتأثر محفوظ بالزخرفة الفاطمية والمملوكية ، الإسلامية عموماً والقائمة على الوحدة الزخرفية الكاملة الجمال، ثم المتكررة إلى الأبد ؟ لبرهة اعتقدت بأن ملحمة الحرافيش وحكايات حارتنا هي روايات تنتمي إلى العمارة الإسلامية ولكني حين تابعت تطورها الداخلي وغائية كتابتها اكتشفت أن نجيب محفوظ لم يستطع الإفلات من التأثر بالثقافة الغربية التي تخرّج على يدها في دراسته للفلسفة ، إنها مزاوجة بين العمارة الغائية التي أخلص لها محفوظ حتى النهاية مع موضوعات شديدة المحلية تكاد تكون مقامات ، ولكن المقامات كتبت ضمن المنظور الإسلامي للزمان والعمارة، أما الحرافيش بأنواعها فقد كتبت ضمن تنويعة على العمارة الغربية، ولكن الهدف النهائي لها غربي، إنه التطهير، إنه لحظة الوصول إلى الغاية، إلى نتيجة البحث عن غاية، عن هدف ، عن مبرر.‏

فيما بعد قضيت بعض الوقت في مراجعة النفس وفي القراءة المكثفة أستعيد ذاكرتي، وكنت ما أزال مزدوج الذاكرة، ذاكرة تاريخية مشرقية المعرفة، وذاكرة غربية بدأت معي منذ تعلمت الإنكليزية في مراهقتي الأولى ودفع مدرس الإنكليزية إليّ برواية (رباعية الإسكندرية) لتكون الرواية الأولى أقرؤها بالإنكليزية العادية، أي غير المبسطة أو المنقحة أو المخففة ، وصادف أن هذه الرواية الإنكليزية المكتوبة للأوروبيين كانت عنا، عن الشرق ، وبالعين الأوروبية في رؤيتها للمشرق، فأعادت تشكيل عيني لتطرد الاعتيادي وتقرأ الغرابة في العادي والجدير بالكتابة عنه.‏

كان من نتائج فترة الكمون ومراجعة النفس هذه أن كتبت ثلاثية التحولات وكان في ذهني حين وضعت العنوان عنوان أوفيد المعروف التحولات بالضبط وكنت أعني كما عنى التناسخات، وكنت خلال فترة مراجعة النفس هذه قد وصلت إلى خلاصة سأعرض لها كثيراً فيما بعد في تعليقاتي التاريخية وفي مقدماتي لسلسلة كتبتها عن تاريخ دمشق بمناسبة صيرورتها عاصمة ثقافية.‏

كنت أعني بالتناسخات تناسخات الحضارة الإسلامية التي تقمصت وهضمت فتحولت كل الحضارات السابقة لها، ساسانية، وقبطية، وشامية، وبابلية، فكانت ذلك الشيء الرائع المسمى الحضارة العربية الإسلامية، ولكن هذه الحضارة التي طرحت نفسها إنسانية (إنما بعثت للناس كافة) أن أضرت بها هذه الإنسانية العالمية، فلقد دخل الإسلام ثم سيطر عليه أقوام آسيا الصحراوية الذين سأسميهم فيما بعد اليأجوج ومأجوج فحولوا الحضارة الإسلامية العالمية ، المنفتحة على كل الحضارات والتجارب إلى حضارة صحراوية آسيوية منغلقة، وكان هذا الطبخ السيئ قد بدأ مع المغول ثم مع الجغتائيين في تيمور وجماعته، ثم مع الطورانيين بجميع تلاوينهم.‏

حسيبة كانت تحدياً معمارياً فامرأة دمشقية كحسيبة كان يجب أن تكون قعيدة البيت ولكن ما البيت هذا السجن- الجنة، كيف أثثته المرأة الدمشقية التي عزلت عن العالم خلال الفترة الآسيوية الطورانية.. عزلت وحولت إلى ما هو أدنى بكثير من زنوبيا والزباء وجوليا دومنا، كيف استطاعت هذه المرأة التعايش مع هذا السجن الذي حولته إلى بيت، وإلى جنة على قدها، لقد زينته ونحن الآن نرى الوجه الآخر من حسيبة، وجه خالدية الفنانة المقموعة لقد حولته إلى متحف لخيالاتها المجنونة التي طرزتها على القماش، ثم حين تحولت هذه الجنة القماشية إلى مشروع استغلال واضطهاد عن طريق الرجل الزوج الفتي، تحولت صناعة جنة من وورود، فملأت البيت، الباحة، الجدران، الدرج، المشرقة، الممر الواصل إلى المشرقة بالورود وحين غص المكان بورودها الداخلية المنعكسة وروداً في أصص ورفضها صياح الذي فضل فلسطين عليها انتهت كما اشتهت في قبر من ورد.‏

ليس هذا فحسب، بل المرأة ذاكرة المدينة ملأت البيت- السجن بالأرواح، شيخ البحرة، وشيخ البير، وشيخ الحمام، وشيخ البالوعة، وشيخ بيت المونة ، إنهم رعب الأجداد و.. أنس الأجداد.. إنهم أرواح المدينة التي بنيت فوق قبورها، أو كما عبرت خالدية في الرواية قبور فوق بيوت، وبيوت فوق قبور، وأرواح مغيظة من فرح الأحفاد فهي تطاردهم وتضايقهم في اختطاف أطفالهم رضعاً وصغاراً.‏

هذا البيت- السجن استطاعت المرأة تحويله إلى ذاكرة ، وإلى تاريخ وإلى حيوات فاستطاعت الاغتناء به عن العالم الخارجي، ولكنها أبداً لم تتخل عن حقها في العالم الخارجي كما رأينا في محاولات حسيبة منذ الثورة وحتى مملكة الجوارب.‏

ثم.. كانت رواية: لو لم يكن اسمها فاطمة‏

في هذه الرواية ابتعدت عن المدينة في الجزء الأكبر من الرواية، ومضيت إلى حيث المدن الميتة أقرأ سبب موتها، وسورية كانت دائماً حافلة بالمدن والقرى الميتة، ترى أكان هذا النوسان ما بين الازدهار والموت هو ازدهار طرق القوافل حين يهدأ الصراع بين الشرق والغرب فتأخذ حظها في التجارة بينهما وتزدهر ثم ينحرف طريق القوافل ، أو ينقطع ، فتعود إلى عزلتها وتكيسها، أين ترقا، وماري، وتدمر، وأفاميا ، وسرجلة، وقلب لوزه ، والرصافة ، وإيبلا ، أسماء كثيرة لمعت وراجت ثم.. انطفأت كمصباح انقطع تياره الكهربائي.‏

بعد صبوات ياسين عدت إلى لعبتي المفضلة في (رقصة البهلوان الأخيرة) في الزمن الحلزوني حسب رؤيتي في هذه الرواية تجلى المعمار الأخير لتجربتي، المعمار المركب والمعقد كتركيب وتعقد الحياة، وتجلى الزمان في اختلاطه الميتافيزيقي بالأرسطي في صناعة هذه المدينة وهذه الرواية، تماماً كالحالة الحضارية التي يعيشها شرقنا العربي، شرق متعلق بزمان ما قبل المدينة -الحضارة، زمان الكتاب المسطور، والقدر المنجز، وزمان صنع الإنسان لزمنه وتجربته وقدره.‏

سنرى محاولات كثيرة لتمثل الزمن الغربي والعمارة الغربية ولكنها ستكون محاولات هجينة سيرد عليها الغرب بقوله: هذه بضاعتنا ردت إلينا، وسيرى محاولات استنساخ الفن الغربي للزمن الإسلامي الحلزوني كما لدى ماركيز وبورخيس، وسيحاول استنساخها ليعود إلى زمنه، ولكن.. تجربة قرن واحد من الرواية فردياً وعلى مستوى الحضارة العربية ككل ليس كافياً، فالأيام حبالى لا نعرف ما تلد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية