تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من جراحكم سيكون الطوفان

آراء
الأثنين 9-2-2009م
جلال خير بيك

الصباح يطلع من جرح المقاوم..والوردة تنبثق وتنمو من الخوذة المكسورة للمغير المدحور..وضحكات الأطفال تتعالى من عمق المأساة..والمرأة الصابرة تلملم أشلاء أطفالها لتصنع منها سداً شاهقاً في وجه الهمجية التي جاءت من الآفاق،

فتبلل بالدمع الرفات وتعجن ما بقي فترمم هنا وهنالك ما تصدع منه ليظل صامداً في وجه الطوفان، فلا يستطيع أن يجتاح الدنيا بآلاته ودماره، بل يغدو حكاية تروى للأجيال..ويترعرع جيلاً بعد جيل، تتقد ذاكرته ووجدانه فلا ينسى، وينمو مختزناً مآسيه وجراحه علامة للغد الآتي.‏

في حضرة الحزن واسترجاع ما صار، يكبر الطفل الذي شهد النكبة والمأساة متسلحاً بوعيه الحاضر أبداً وإصراره الذي لا يموت، وتعلقه بالغد الآتي لا محالة..فعرف الخلق لا ترسم الطفولة إلا براءتها وذاكرتها وإصرارها على ما سيكون، فكيف لك أن تنزع من عنفوانها شريط الذكريات والأحزان وزخم الحنين والوحدانية التي خلفتها آلة الحرب الهمجية، فيطلع من بين الأشياء مارد من نار وأفق قادم ليس فيه سوى الربيع وجنى ما زرعته الأنامل الغضة التي ترفض الموت والإبادة.‏

في عالم تتناهبه الآلة الحربية ووحوش القتل والدمار تختزن الطفولة ما رأته وما جرى، ويكتنز اللا وعي بصورة القتل والحرق والتشريد والصراخ الذي أطلقه أطفال استشهد أهلهم وبقوا وحيدين عزلاً في وجه الوحش التي تحتار آنيابه كيف تنقض وتنهش ثلج البراءة، وتترك للريح كل ذكريات ذلك البيت الذي تهدم فوق من فيه ولم يبق منه أثر سوى بضعة أنقاض ينسل تحتها ذلك الطفل اليتيم الوحيد ليتقي فيها ضراوة الإنسان الذي استحال إلى كتلة أنياب لا ترحم ولا يبقى منها في ذاكرته سوى الرعب والأشلاء وأنقاض الدمار.‏

أي طفولة هذه التي شاهدت المأساة وستبقى على ما هي عليه من براءة؟ وأي غد ذلك الآتي مع الفجر المضرج بالدماء؟‏

إن صهاينة القتل يحفرون قبورهم بأيديهم..وإنهم بوحشيتهم يؤسسون للفجر الطالع من بين الأنقاض لهباً من حقد وذكرى وصور لا تمحى من مخيلة الأطفال الذين هم رجال الغد المبكر، المشبعون حقداً وتصميماً واتقاد مخيلة وذكرى، حيث يحيلهم الألم والجراح إلى جيوش تنمو إلى مالا نهاية، وتحمل بين جنباتها كل تصميم الدنيا، وكل شريط الأشلاء الحبيبة التي نثرتها أيدي وآلات الوحوش في رحاب الأفق لتعود رجالاً وتصميماً وعناداً فتمحو «آثار القدم الهمجية» التي لم تبق لهم إلا لون الدماء!‏

في جنبات هذه الأمة جراح كثيرة ليس أولها جراح فلسطين والجولان والعراق وجنوب لبنان..ولكن الألم الأول هو «ما تبدعه الأيدي العربية» بعد الدمار الذي حل في غزة، فبدل أن تداوي الجراح صارت تزيدها نزفاً وحرقة..وتترك الخراب الذي حل بها لتغرق في بحور من المشادات الكلامية ومن الآراء المتضاربة حول التهدئة والوحدة الوطنية.‏

إن الجرحى والمشردين الذين باتوا دون مأوى..هم بحاجة إلى غير الكلام، والأفواه الجائعة لا تستطيع انتظار نتائج الخصومات ومساجلات الكلام!!‏

لقد أعادوا أحد كوادر حماس لأنه كان يحمل لأهل غزة مبلغاً من المال، وبحجة أن القوانين لا تسمح بذلك!! فأي إخوة هؤلاء؟ وبأي وجه سيقابلون شعوبهم؟! وهل المبالغ التي تبرعوا بها في قمة الكويت أضحت هي الأخرى تنتظر خلاصة الآراء، والناس في القطاع جياع وجرحى وعطاش يبحثون عن اللقمة وحبة الدواء وقطرة الماء؟!‏

ينتظرون أن تدفأ أوصالهم في هذا البرد وهم يفتقرون للكهرباء والمحروقات، إذ يسكنون في العراء ولا مجير لهم!!‏

إلى أي درك وصلت المشاعر العربية؟ فهي في عمق المأساة تأسو جراح الأخوة بالكلام والخطب الرنانة!! وتفرض عليهم شروطاً وقيوداً كثيرة، فهل ينتظر ضحايا المأساة كل تلك المطولات من الأقوال لا الأفعال وهم بأمس الحاجة إلى من يداوي جراحهم.‏

حتى سفينة الأخوة التي قصدت غزة لفك الحصار عنها، عانت الذي عانته وعلى متنها المطران كبوجي: عادت من حيث أتت، ولم يسمح الصهاينة لركابها بالوصول، بل ضربوهم وأسروهم ثم أخرجوهم، ولم يراعوا رجل الدين المبعد عن القدس وفلسطين، ولم يحترموا مرتبته الدينية، فماذا ينتظر الخطباء العرب وبعض الحكام الذين فاقوا المحتلين في معاملتهم للأشقاء؟!‏

هل تستطيع جراح غزة أن تنتظر مصالحة لن تتم بين السلطة والفصائل؟.. هل يستطيع الأطفال أن يصبروا على الجوع والعطش والبرد والعراء ليتفق العرب على حل وهم لم يتفقوا على موقف قط؟!.. وهل تستطيع الجراحُ النازفة والمشافي المقفرة أن تصبر على وصول الدواء والنجدات الطبية؟‏

إن ما هدمه القصف الصهيوني لا يُعاد بناؤه بالأقوال والخطب الرنانة!!.. فلا المساعدات المالية المأمولة وصلت إلى من دفعوا ضريبة الدم والأرواح وظلّوا ينتظرون في العراء تحت وبين الأنقاض وزادهم الأوحد التصميم والصمود والثبات، فليهنأ الذين يداوون تلك الجراح بالأقوال بينما شعوبُ العالم تجوب شوارعه تأييداً لغزة وأهلها ومقاومتها، احتجاجاً على ما أنزله الصهاينة بها يدعمهم دهاقنة العالم وسادته الذين لا يطربون إلا للقتل والدمار.‏

من يدفع الضريبة الكبرى أيها المتربعون على عروش هذه الأمة؟.. إنهم رجال الصبر والصمود، وأطفال ونساء وشيوخ أهلكم بينما تنجدونهم بالخطب العصماء !!..أيتها الجراح النازفة،،، من عمق مأساتكم سينتفض المارد العربي، ومن شلالات الدماء سيكون الطوفان الذي يودي بعروشهم وعروش أسيادهم ويهدي شهداءكم وردة حمراء، وجراحكم بلسماً كيما تصير المارد الذي ينتظره الغد العربي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية