تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المشـروع

آراء
الأثنين 9-2-2009م
أ.د يوسف سليم سلامة

من أهم الأسئلة التي يمكن للفرد أن يطرحها على نفسه وعلى غيره السؤال المتعلق بحيوية المجتمعات وحركيتها، أو بسكونها وثباتها، وبركودها، فما الذي يجعل مجتمعاً من المجتمعات نامياً متحركاً متغيراً أو متطوراً؟ وما الذي يجعل غيره من المجتمعات ثابتاً وساكناً بل وراكداً؟

يبدو أن الإجابة على هذا السؤال متعلقة بالتمييز بين مجتمعات ما زال وجودها ينطوي على مشروع مستقبلي وجملة من الغايات التي ينظر هذا المجتمع أو ذاك إلى نفسه على أن وجوده الحقيقي يظل ناقصاً ما لم يستطع التقريب بين وجوده وغاياته، وجملة المشاريع التي لا يزال هذا المجتمع يستهدف تحقيقها باعتبارها المثل العليا التي تبرر وجوده لنفسه ولغيره من المجتمعات.‏

وفي المقابل ثمة مجتمعات لم يعد وجودها الراهن ينطوي على أي مشروع أو غاية يتطلع إلى إلحاق وجوده بها، وبدهي أن وجود مجتمع كهذا معناه ببساطة أن وجوده يتسم بالثبات والسكون والركود، فما دامت كل الغايات المستقبلية منعدمة، وما دام هذا المجتمع لا ينطوي وجوده على أي مشروع، فمن المؤكد أن وجوده ينطوي على زواله واضمحلاله ومن ثم فإن مجتمعاً كهذا لا بد أن يترجم عن افتقاره إلى المشروع والغاية المستقبلية في نمط من الوجود الساكن والزائف والراكد، ومن ثم فهو بانتظار الزوال في يوم قريب أو بعيد.‏

والمجتمع الذي لا مشروع له مضطر أن يبحث عن مشروع حتى يكون وجوده معقولاً ومبرراً، وحتى يحظى بقدر من الاحترام لنفسه أمام غيره من المجتمعات، وبدلاً من أن تواجه المجتمعات التي هذا هو حالها إفلاسها بكل صراحة ووضوح، فإنها تعيد إنتاج الماضي على هيئة أسطورة من أساطير العصر الذهبي، فتصبح كل مهمتها منحصرة في استعادة الماضي كله أو الاكتفاء ببعث بعض أجزائه بصورة انتقائية، وربما تعسفية أيضاً.‏

ولو أننا نظرنا في أحوال المجتمع العربي اليوم، لما استعصى علينا أن نلاحظ أن هذا المجتمع يعبر عن نفسه بطريقة نمطية واحدة تقريباً تتمثل في أن هذا المجتمع «مجتمع ساكن وراكد» ولا ينطوي وجوده على أي مشروع يخلع عليه أي معنى أو دلالة خاصة، إنه الركود الذي يكاد يخلو من كل هوية أو علامة فارقة.‏

وإن شئت فقل إن هذا الوجود هو العدم ذاته الذي لم يفتضح أمره بعد، فظل مستتراً أمام مجموعة من الأوهام تجعل من لا دراية له بحقائق الأشياء يظن أن هذا المجتمع موجود وجوداً حقيقياً، في حين أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.‏

وبما أن الآليات الداخلية المتحكمة بفاعلية المجتمع الذي لا مشروع له هي آليات تفعل باتجاه العدم، أكثر مما تفعل باتجاه الوجود، أي الحيوية والحركة والتطور، فإن أغلبية المجتمعات العربية، وأكثرية أفراد هذه المجتمعات يندفعون باحثين في كل مسارات الماضي ومساربه ودهاليزه عن أي عنصر كي يتم تحويله إلى أسطورة كبيرة أو صغيرة حتى تتم استعادتها أو بعثها، ويمكن لهذه الأساطير أن تكون روحية أو سياسية أو تاريخية أو أخلاقية أو مزيجاً من كل ذلك.‏

غير أن كل هذه الأساطير لا تشهد إلا على شيء واحد هو ركود المجتمعات العربية وفقدانها لأي مشروع يبرر وجودها ويمنحها الاحترام والتقدير في نظر الغير وفي نظر أبنائها، تلكم هي الحقيقة التي تؤمن بها أكثرية العرب وتتبناها فعلاً وقولاً.‏

غير أن هناك أقلية من العرب، أقلية من المثقفين وثلة من السياسيين، وقليل من الاقتصاديين الذين يعترفون عن طيب خاطر أن مجتمعاتهم لا تملك المشروع الذي يبرر وجودها، ومن ثم فإن هذه الفئات على اختلافها تسعى إلى إنتاج مشروع ناظم لفاعليتها وحركتها، ولكن هذا المشروع لم يوضع بعد، وما وضع منه لا يزيد عن كونه أمشاجاً لا تشكل مشروعاً متكاملاً، وعلى الرغم من أننا نعترف أن المشاريع ليست نسخاً ذهنية متكاملة وليس على المجتمعات إلا التقيد بمخططاتها النظرية، وذلك لأن المشروعات الكبرى لا تتكون خارج الممارسات الاجتماعية التي لا تكف عن خلق هذه المشاريع وإغنائها وإصلاح مسارها على الطريق، فإن جميع المجتمعات العربية لا تمتلك مشروعاً قومياً أو قطرياً يمكن النظر إليه على أنه قادر على بعث الحيوية والحركة في مجتمعاتنا القائمة اليوم.‏

أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق‏

salamahyoussef@yahoo.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية