تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفلسفة البراغماتية.. فلسفة النجاح

إضاءات
الاثنين 4-11-2019
د. خلف المفتاح

تنازع الفكر السياسي والاقتصادي رؤيتان بل نزعتان وفلسفتان ترى أحداهما أن النظرية هي المدخل الأساسي للوصول إلى الحقيقة والهدف بينما

ترى الأخرى أن التجربة هي التي توصلنا لذلك ومن ثم تصاغ النظرية وقد أطلق على الفلسفة الثانية مصطلح البراغماتية اشتقاقاً من المفردة اليونانية (براغما) أي العمل النافع والذرائعية والتداولية بوصفها فلسفة عملية تشكلت بعد المناظرة الشهيرة بين عالم الفيزياء المعروف ألبرت أنشتاين والفيزيائي الدانماركي نيلزبور حيث يؤمن أنشتاين بالنظرية التي تؤدي إلى التطبيق بينمايرى بور أن التجربة هي الأساس ومنها نصل للنظرية وليس العكس وهي فلسفة تبحث عن العمل الناجع وهو صاحب نظرية عدم اليقين في الفيزياء أي السلوك والقرار النافع والعملي وعلى ذلك يرى نيلزبور أن التجربة أهم من النظرية، فالتجربة تتحول إلى نظرية إن نجحت وليس العكس وبحسب رؤيته الحقيقة ليست حالة ثابتة بل متغيرة حسب الزمان والمكان والأشخاص والثقافات فما هو حقيقة في أوروبا هو غير ذلك في أميركا وغيرها والعكس صحيح، ونظراً لواقعية تلك النظرية انتقلت عدواها بسرعة فائقة إلى الثقافة الأميركية وتبناها بشكل واضح الأميركيون جون ديوي ووليم جينز وساندرس بيرز حيث وجدوا فيها الفلسفة الأكثر تعبيراً وتلبية لمصالح الشعب الأميركي متعدد الثقافات والأصول والأهواء ولا سيما أن الجغرافية الأميركية جغرافية ممتدة على مساحات واسعة تحمل الكثير من التنوع من هنا جاء النظام السياسي والإداري الأميركي فيدرالياً كي يفسح في المجال لكل ولاية أميركية اختيار من يناسبها من قوانين وأنظمة وآليات تحقق الأهداف المحلية دون أن تتعارض مع الفكرة الأميركية المركزية وهو نظام ثبتت جدواه في إمبراطورية يزيد عمرها على قرنين ونيف من الزمن وتشكل حتى الآن أكبر قوتين عسكرية واقتصادية في العالم٠‏

لقد تأثر البراغماتيون بالفيلسوف الألماني (هيغل) الذي يرى أن الحل الناجع والناجح ليس حلاً دائماً وإنما مرتبط بالزمان والمكان وطبيعة المجتمع وثقافته ومستواه الاقتصادي فما يصلح في مكان قد لا يصلح كما أشرنا سابقاً في مكان آخر ما يعني من الناحية العملية اتباع قاعدة المصلحة والمنفعة النجاح والجدوى في التعامل مع يوميات الحياة حيث ثمة ثقافات عامة تحكم الناس في مجتمع ما وثقافات فرعية لمكونات أخرى ضمن ذلك المجتمع وهذا مرتبط بالوعي العام حيث تتنازع الجماعات الإنسانية سلوكيات مختلفة في موقفها من الأشياء فثمة ثقافة يمكن تسميتها ثقافة قطعية غالباً ما تحكم مواقف المجتمعات البدائية وهي ثقافة حدية أو صفرية لا تقبل الحلول الوسط حيث الأمور عندها خير أو شر، صح أو خطأ، معك أو ضدك، ومجتمعات متقدمة تتسم ثقافتها بالوصفية فلا تحكم على الأشياء ألا بعد وصفها وتبيان أوجه المسألة سلباً أو إيجاباً، إضافة إلى أن تلك المجتمعات تؤمن بحق الاختلاف وتعدد الآراء في القضية الواحدة واحترام الخصوصيات الثقافية والهويات الفرعية وغير ذلك من قضايا تعكس حالة التنوع في المجتمع السياسي الواحد ولا تؤمن بثقافة التعميم.‏

وما تجدر الإشارة إليه أن البراغماتية ليست نهجاً سياسياً فقط كما يعتقد البعض فهي سلوك عام يتعلق بالسياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والرياضة، لأنها كنا تعرف نفسها عدوة القيم الثابتة على قاعدة يبنى على الشيء مقتضاه وإذا كانت البراغماتية لا تؤمن بالثوابت فهذا لا يعني أنها لا تملك الهدف فالهدف بالنسبة للبراغماتيين هو تحقيق المصالح والمنافع بغض النظر عن الآليات إلى درجة أن أتباعها على المستوى السياسي يؤمنون بمقولة الكذبة الطيبة وهي التي ترى في الكذب والخداع أمراً مقبولاً وممكناً سياسياً حال الوصول إلى منافع كبرى، ما يعني أن ثمة نسباً سياسياً ومعرفياً ما بين البراغماتية والمكيافيلية حيث كلتاهما تخرجان من عباءة الأمير.‏

إن نظرة إلى الواقع تشير إلى أن أغلب الناس يمارسون البراغماتية في سلوكهم اليومي وعلى قاعدة المنافع والمكاسب ولعل مقولة إن لكل مقام مقال أحد مؤشرات ذلك ناهيك عن تلوين المواقف عند البعض بهدف الحصول على مكاسب اقتصادية أو مواقع سياسية عبر ادعاء الولاء لهذا السياسي أو ذاك دون النظر إلى مصداقية الموقف أو أخلاقية وإنسانية السلوك من عدمه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية