|
شؤون سياسية مارست الولايات المتحدة كل ما قدرت عليه وأخرجت كل ما في جعبتها من أدوات ووسائل مكشوفة مبطنة, وقام كبار مسؤوليها من بوش إلى تشيني إلى رايس بجولات مكوكية في المنطقة العربية, بهدف واحد ووحيد ألا وهو منع انعقاد مؤتمر القمة في دمشق, وبدا الرأي العام العربي المذهول من هذا السعار الأمريكي المحموم وكأن ثمة صراعاً مكشوفاً ومفتوحاً حتى نهاياته القصوى بين واشنطن ودمشق. الهدوء والرزانة السورية أكدا من جديد صورة سورية الرائعة التي حضرت في الذاكرة العربية وفي الوجدان العربي, كما رسخا دورها العربي والقومي غير القابل للحذف من خلال المواقف الرصينة والمسؤولة لقيادتها السياسية وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد, والترحيب الحار والضيافة الصادقة من قبل شعبها ونبل مشاعره, وهو يرى عاصمة بلاده وقد زهت بالأخوة العرب من قادة ووفود فعاشت دمشق عرس فرحها الكبير وأصبحت بحق وكما هي على الدوام عاصمة الأمة العربية وقبلة أنظار العالم وشاغلة الدنيا, وقد شعر كل عربي يؤمن بأمته وعروبته أن سورية بقيادتها الحكيمة قد خرجت من القمة أكثر قوة من أي وقت مضى, وأن هذه القيادة الرائعة تصرفت وكأنها امتلكت ينابيع الحكمة وفيضاً لا ينضب من المحبة الصادقة والأخوة الحقيقية والترحيب المذهل, بحيث أثبتت دمشق من جديد أنها فعلاً وقولاً هي قلب العروبة النابض, وأن سورية هي في قلب كل عربي وفي وجدانه. قمة دمشق كانت مهرجاناً قومياً بامتياز, ولكن اللحظة الأكثر تألقاً والتي ستبقى في الذاكرة العربية وفي الوجدان العربي كانت عندما ألقى الرئىس القائد بشار الأسد خطابه القومي الكبير في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. استهل الرئيس القائد خطابه بالإشارة إلى الجهود المضنية التي تطلبها الإعداد للمؤتمر فقال: (لقد عملنا بكل إمكانياتنا على تهيئة الظروف المناسبة لإنجاح هذه القمة وسعينا لتجاوز الكثير من العقبات التي تعترض سبيلها, ولا سيما أننا ندرك جميعاً صعوبة المرحلة ودقة التطورات التي تشهدها منطقتنا بحيث لا نغالي إذا قلنا إننا لم نعد على حافة الخطر, بل في قلبه, وكل يوم مر دون اتخاذ قرار حاسم يخدم مصلحتنا القومية, يجعل تفادي النتائج الكارثية أمراً بعيد المنال). هل ثمة كلمات بليغة على إيجازها تحمل هذا الكم المتدفق من دلالات الحكمة والارتقاء الأخلاقي والغيرة على المصير القومي ومستقبل الأمة العربية أكثر من هذه الكلمات الرائعة. عندما تحدث الرئىس الأسد عن سعي سورية لتجاوز الكثير من العقبات التي اعترضت سبيل القمة, لم يتحدث- بنبله الرفيع وأخلاقيات الفارس العربي. عن المؤامرات التي حيكت والطعنات التى وجهت إلى ظهر سورية لنسف مؤتمر القمة, لقد تجاوز كل هذه السلبيات في سبيل هدف قومي جليل, فالمرحلة صعبة والتطورات خطيرة وإننا لم نعد على حافة الخطر بل في قلبه. إنها صيحة تحذير وانذار إلى كل العرب أن لابديل عن التضامن العربي المشترك وضرورة نبذ الخلافات والعمل على رص الصفوف لكي نستطيع تفادي الكارثة المرتقبة. إنها لغة التصالح والمحبة والأخوة, تعالى على الجراح فلم يتطرق على الاطلاق - وهذا من شيم الفرسان والأبطال- إلى مواقف بعض الأشقاء العرب, ولم ترد على لسانه قط كلمة ( الخلافات العربية) وأسبابها وتداعياتها وأثرها الضار على مستقبل الأمة العربية ووجودها الحضاري. وانتقل الرئيس إلى اشكالية مفهوم الأمن وفق التصور الإسرائيلي, حيث تشن حروبها وترتكب العدوان تلو الآخر على الأمة العربية بذريعة ضمان أمنها, وكأن أمن العرب لا يؤخذ في الحسبان. ويؤكد الرئيس: (إن الأمن لن يتحقق لأحد إلا من خلال السلام, وليس من خلال العدوان والحروب, والسلام لن يأتي إلا من خلال الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة واستعادة الحقوق كاملة, وهذا يعني أن الطرح الإسرائيلي للأمن غير قابل للتحقيق لأن الاحتلال يناقض الأمن والسلام معاً, وأن الأمن إن لم يكن متبادلاً ويشمل الجانب العربي فهو وهم). التحليل الاستراتيجي الذي قدمه السيد الرئيس حول مفهومي الأمن والسلام وارتباطهما الجدلي والموضوعي بحيث لايمكن لإسرائيل أن تحقق الأمن لنفسها بمعزل عن السلام واستعادة الأراضي المحتلة, هو في المحصلة تحليل بالغ الأهمية والدلالة في استراتيجية العلاقات الدولية والإقليمية وفي العلاقات بين الدول, وإدانة صريحة لسياسة العدوان والاحتلال, ورسالة واضحة وصريحة لإسرائيل وحاميتها الكبرى الولايات المتحدة بأن العرب لن يسمحوا تحت أي ظرف ومهما طال الزمن أن تقوم إسرائيل بشن الحروب والاستيلاء على أراضي الغير, ثم تطالب بالسلام المغمس بالدم والعدوان وانتهاك القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة. يستطرد الرئيس في خطابه التاريخي في إيضاح هذه الفكرة المصيرية في تاريخ العلاقات الدولية ليؤكد أن السلام لن يتحقق إلا بعودة الجولان كاملاً. ويحذر السيد الرئيس (إسرائيل) بأوضح العبارات وأبلغها أن المماطلات الإسرائيلية لن تجلب لهم شروطاً أفضل ولن تجعلنا قابلين للتنازل عن شبر أو حق, وأكد الرئيس بحزم قاطع: (وما لم يتمكنوا من الحصول عليه من تنازلات من سورية سابقاً لن يحصلوا عليه لاحقاً, أما الرهان على الزمن بهدف انتفاء الحقوق بالتقادم أو بالنسيان فقد ثبت عدم جدواها لأن الزمن أنتج أجيالاً أكثر تمسكاً بالأرض والتزاماً بالمقاومة). كانت رسالة السيد الرئيس التحذيرية هذه لإسرائيل واضحة وصريحة وقاطعة, وقد استقبلها القادة العرب في قاعة المؤتمر ومن خلال تعليقاتهم اللاحقة بكثير من الاهتمام والترحيب ودونت كأحد أهم مقررات إعلان دمشق. انتهت القمة وستقود سورية المسيرة العربية عبر رئاستها للقمة طوال سنة كاملة وكما كانت وستظل وفية لمبادئها, صلبة في الحفاظ على ثوابتها الاستراتيجية, تتقدم الصفوف في مسيرة النضال العربي. انتهت القمة ولكن الفرح بقي ظاهراً في وجوه السوريين الذين شعروا أن بلادهم لا تزال رائدة في التوهج القومي كما هو شأنها على الدوام, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بصدق وصراحة وشفافية: متى لم يكن لسورية العروبة دورها القيادي سواء قبل القمة أو خلالها أو بعدها وقد وصفت دمشق على الدوام أنها قلب العروبة النابض, وترسخ لدى الوجدان العربي المشترك أن سورية هي في قلب الأمة العربية بل هي قلب هذه الأمة بالفعل. |
|