تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مع أنه لا يرتكز إلى معطيات محددة..الانطباع الأول يدوم ويدوم..

شباب
2012/6/18
غانم محمد

قد لا تحظى على الدوام بقبول ورضا من هم حولك، وقد تشعر في بعض الأحيان أنك مرفوض أو غير مرغوب بوجودك على الأقلّ، وهذا لا يعني دائماً أنك

على خطأ وأن الآخرين على صواب، بل قد يكون العكس، ولأسباب آنية حيناً وحقيقية حيناً آخر بكَ أو بهم يحضر هذا التنافر ويكون من الصعب ردم الفجوة التي أحدثته أو تجاوز الأسباب التي أدّت إلى وجوده.‏

هذا الشعور قد يولّد حالات نفسية يصعب التعامل معها، وقد لا يسمح لأحد بالتدخّل للتخفيف من حدتها على مبدأ دوام الانطباع الأول، ولكن وحتى لا تبدو القضية وكأنها استحالة سنقلّب الأسباب التي تخلق مثل هذا التباين ونتسلّق على بعض الدراسات الاجتماعية لمختصين للاقتراب من الحلول وقراءة هذه الحالة النفسية بشكل علمي دقيق..‏

عندما أريد تناول قضية معينة أتعمّد أن أكون بين مجموعة من طلاب المرحلة الثانوية لقناعة منّي بأن أفكار هذه المرحلة العمرية لا تستطيع أن تبقى في قمقم الصدر أو حبيسة الصمت، وأنها أسرع مما نعتقد في تحوّلها إلى مواقف تنمّ عن مزايا كثيرة في شخصية أصحابها، ومن هذا المنطلق ومن خلال رصدي لبعض مواقفهم تجاه أشخاص محددين سواء كانوا من عمرهم أو من هم أكبر منهم أستطيع أن أسجّل بعض الملاحظات قبل الانتقال إلى بعض الدراسات التي تتناول مثل هذه المواقف والقضايا..‏

أسباب مجهولة‏

إذا ما أحرجتَ أحدهم وسألته: لماذا تتخذ هذا الموقف الحاد تجاه زميل لك مع أنه يشترك معك بكثير من الصفات والتقاطعات؟ فقد تصل معه إلى طريق مسدود، وكنوع من الهروب يقول لك: دمه ثقيل، وقد دار هذا الأمر بيني وبين أحدهم فقلت له: ما دلالات ثقل دمه؟ فقال: إذا كنتُ أنا وأي زميل آخر فإنه يأتي للتحقيق معنا ويريد أن يعرف كل ما نقوله وما يدور بيننا.. فقلت له: أليس صديقاً لكم؟ فأجاب: نعم، ولكن ليس للدرجة التي تسمح له بمعرفة كلّ شيء، فقلت له: ولكنك تقول كل شيء للصديق الآخر، فقال: هذا مختلف تماماً، فسألته من جديد: وهل صديقك الآخر يتخذ نفس الموقف من الصديق الذي تعتبره "ثقيل دم"؟ فقال: تقريباً، إنه ثقيل دم فعلاً..‏

اتجهت إلى آخر وسألته: هل بإمكانكم أن تصارحوا " ثقيل الدم" وكل من لا يعجبكم وتنسجمون معه بموقفكم صراحة؟ فقال: لا تصل الأمور دائماً إلى درجة الرفض ولو أنها كذلك لشعرَ بها الآخر وابتعد، لكن ثمة مواقف من قبله قد تزعج أكثرنا فنتأكد من صوابية حكمنا عليه ولكن نجامله لدى حضوره بيننا ولا نتحدث أمامه بالراحة التي نتحدث بها من دونه...‏

سألتُ ثالثاً ورابعاً دون أن أصل مع أي منهم إلى أسباب موضوعية واضحة رغم دورانهم المستمر حول ظنونهم بالآخر، هذا الآخر من وجهة نظرهم هو طالب مجتهد ولا يقصّر معنا ويزورنا ونزوره ولكن تبقى بعض الشائبات موجودة بحكم الانطباع المسبق عن هذا الشخص..‏

قابلة للتغيير‏

أتحدث من خلال مجموعة شبابية محدودة العدد، وبالتالي لا أستطيع تعميم الرأي وإن كنّا نلمسه ونشعر بوجوده حتى بين الكبار في أماكن العمل، وبالتالي فهو ليس حالة مرضية ولكنه إحساس مزعج بعض الشيء، ونعتقد أن هذا الإحساس قابل للتغيير ويدعمنا في ذلك موقف الشباب الذين التقيناهم شرط أن يغيّر هذا الآخر بعضاً من سيئاته كالحشرية أو الإصرار على التدخل في الخصوصيات أو إطالة الزيارة...إلخ.‏

العلاقة متبادلة‏

قد يبدو من كلامنا انه في مثل هذه الحالات أن العلّة موجودة في طرف دون آخر، وحقيقة الأمر غير ذلك والعلّة موجودة لدى الطرفين..‏

صحيح أنه قد يكون هناك شخص "ثقيل الدم" كما يقولون، لكن طريقة تعاملنا معه إما أن تزيد هذه الخصلة السلبية حدّةً وإما أن تساعد صاحبها على التخلص منها، فأي الأدوار نلعبها في مثل هذه الحالات ونحن المنضوين تحت منظومة "الصداقة"؟‏

إن كان القسم الأكبر منّا يعتقد أنه صحّ وأن دمه خفيف وحضوره مقبول فإنه مدان بالدرجة الأولى لأنه وهو الذي يمتلك هذه الخصال الإيجابية وهو الأكثر نسبة ومع هذا لم يستطع أن يغيّر شيئاً من طبع الآخر من اجل صالحه بالدرجة الأولى ومن أجل الآخر "صاحبه" بالدرجة الثانية..‏

باختصار، تبقى هذه العلاقات مفعمة بالحرارة في العقود الثلاثة الأولى من العمر وقد تقود طرفيها إلى نوع من " النميمة" دون أن تكون هناك نيّة جادة لتغيير رأي أي منهما تجاه الآخر، ومع الابتعاد عن القواسم المادية المشتركة بين الطرفين / الحي – المدرسة – الرفاق- علامات الامتحانات – ثناء الأهل والجيران ومقارناتهم/ تبدأ هذه المواقف بالزوال شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى معظم الأحيان، وقد تتحول مع تقادم العمر واستمرار التواصل بين الأطراف إلى نوع من الذكريات المضحكة لكلا الطرفين.‏

في ذات السياق‏

حكيَ عن الإمام الشافعي أنه رحل من الحجاز إلى اليمن لأخذ علم الفراسة منهم فمكث عندهم ما شاء الله له أن يمكث ثم رجع، وفي طريق عودته وقبل غروب الشمس بقليل رُفِعَ له خباء بعيد وعندما اقترب منه رأى رجلاً قصيراً صغير العينين وأحدب الظهر وسريع المشي، فقال في نفسه : الآن أختبر صحة فراسة أهل اليمن فحسب الدلائل الظاهرة من الرجل ينبغي أن يكون بخيلاً !‏

سلّم الشافعي فردّ الرجل بأحسن سلام وأنزله أحسن منزل بعد أن أنزل رحله وفرش له تلك الفرش الوثيرة ولم يزل يرحب به، وبعد قليل أتاه بصحن فيها دجاجة مشوية وكوز ماء بارد فأكل الشافعي والغرابة تسيطر عليه وهو يقول في نفسه : أمن المعقول أن يسقط علمهم في أول اختبار؟ .. لا..لا أظن ، ولكن الرجل بالغ في الكرم والسماحة ولم يظهر إلى الآن لي عكس ذلك .‏

وبعد الأكل أصلح الرجل ما ينام عليه الشافعي فنام الشافعي نوماً هنيئاً، وعند استيقاظه لصلاة الفجر وجد الرجل قد حضر له الماء الدافئ للوضوء فصليا ثم قدم له ما يأكله فأكل ثم جاء بناقته فقام الشافعي يشكر الرجل على حسن صنيعه، وعندما ودع الرجل وهمّ بركوب ناقته قال الرجل : إلى أين تذهب وأنت لم تعطني أجر ما قدمته لك ، أتظنني جعلت منزلي سبيلاً لكل طارق وعابر؟‏

أخرج ثمن مبيتك ومبيت ناقتك وعشائك البارحة وما أكلته قبل قليل ولم يدع صغيرة وكبيرة إلا أحصاها!‏

عندها تبسم الشافعي وقال : صدق أهل اليمن .‏

وهذه الحكاية تؤكد صوابية الانطباع الأول أغلب الأحيان وهذا ما تدعمه نتائج دراسة أجريت على طلاب يدرسون الطب في أميركا حول الفكرة السائدة بأن تأثير الانطباع الأول الذي يتكوّن عند المرء عن شخص آخر يدوم.‏

وقد طلب المعدّ الرئيسي للدراسة جون ماكنالتي من جامعة لويولا في شيكاغو، من 144 طالب طب تقييم 16 أستاذاً يحاضرون خلال صف علم الوظائف، وسمح لكل طالب اختيار إن كان يفضل تقييم الأستاذ خلال المحاضرة أو بعد انتهائها.‏

كما أتيحت للطلاب فرصة تغيير رأيهم قبل انتهاء التقييم في نهاية الصف.‏

وملأ 26% من الطلاب استمارات التقييم خلال الصف و65% فضلوا نهاية الحصة فيما لم يقدم 9% تقييمهم.‏

وتبين في الدراسة، التي نشرت في مجلة "تقدم في تعليم علم الوظائف"، إن التقييم الذي حصل عليه الأساتذة في بداية الأمر كان شبيهاً بالنتيجة عند انتهاء الصف.‏

كما تبين أن 3% فقط من التقييمات خضعت للمراجعة قبل انتهاء الفترة المتاحة للتقييم. وقال الباحثون إن "الطلاب كانوا ميالين إلى عدم تغيير رأيهم وتعليقهم بغض النظر عن الوقت الذي قدموا فيه التقييم، ما يعني أن الانطباع الأول يبدو مهماً جداً".‏

خلاصة القول‏

قد لا يكون الانطباع الأول صحيحاً على الدوام لكنه غالباً ما يدوم طويلاً، وإذا ما أخذنا بهذه الخلاصة فقد نظلم بعض أصدقائنا لأننا بهذا الانطباع " خاصة عندما يكون سلبياً" قد نغلق كل الطرق في وجه تقبّل الآخرين وهذه مشكلة حقيقية ولو كان الرأي صائباً والأصحّ هو أن نؤخّر تشكيل هذا الانطباع إلى ما بعد دراسة كلّ تفاصيل الآخر حتى لا نقع في الندم لاحقاً.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية