تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ليسوا لكم..

الثلاثاء 19-6-2012
سعد القاسم

لو لم تكن الأغنية ناطقة بالعربية لصعب على مشاهدي (الكليب) اكتشاف جغرافيتها فبطلها يرتدي الملابس التقليدية الكاملة لرعاة البقر الأميركيين، وكذلك الراقصون.والمكان بشكل عام يستعيد مشاهد الغرب الأميركي التي ألفناها في أفلام (الكاوبوي)..

لكن في لحظة مفاجئة تتحول الجغرافيا من (هوليوود) إلى (بوليوود) لنجد أمامنا مواجهات قتالية راقصة مما برعت في صنعه السينما الهندية..وتختتم هذه الرحلة الفنية العابرة للقارات باستعراض أسماء مصنعي الأغنية وجميعها مكتوبة باللغة الإنكليزية، رغم أنها جميعاً أسماء عربية قحة..‏

من المشكوك فيه الاعتقاد أن الحرص على استعمال اللغة الإنكليزية تقف وراءه الرغبة في مساعدة المشاهد الناطق بها على معرفة أسماء مبدعي شريط الأغنية، فمجرد توقع عرض هذه الأغنية الهجينة لجمهور أجنبي يحيل المرء إلى المثال الذي يستهزىء بمن يحاول أن يبيع الماء في (حارة السقايين).. وإذا استخدمنا لغة عصرنا فالأمر يشبه قطيعاً من الماعز الأصيل يبدي إعجابه بنعجة مستنسخة مثل ذائعة الصيت (دوللي)..‏

فما تفسير الأمر إذاً؟..‏

هذا الاستنساخ لتقاليد ومظاهر المجتمع الأميركي لا يقتصر على المجتمع العربي، وإنما يكاد يشمل معظم العالم بما في ذلك مجتمعات شديدة الفخر والتمسك بهويتها الثقافية المحلية، فقد اشتكى الفرنسيون مرة من أن الأغطية التقليدية ذات اللونين الأحمر والأبيض لموائد مطاعمهم تكاد تختفي في بلادهم بعد أن حلت محلها الأغطية الورقية الصغيرة لمطاعم الوجبات السريعة ذات المنشأ الأميركي.. واشتكى الهنود من حلول بناطيل (الجينز) محل أثواب (الساري) الوطنية في أفلامهم السينمائية..واشتكى كثيرون من تفشي العادات الاستهلاكية الأميركية في معظم مظاهر حياتهم بما في ذلك تحول الأجيال الشابة من الهوايات الإبداعية والمعرفية التي شاعت في زمن أسلافهم، كالمهارات اليدوية وجمع الطوابع البريدية والتصوير الفوتوغرافي وغيرها الكثير مما يغني أوقات الفراغ. إلى هواية عجيبة هي التسوق أو (الشوبينغ) كما يفترض الحال تسميتها.. وهنا بيت القصيد أو أحد الأهداف الأساسية لهذه التحولات التي تستهدف أساساً أجيال المراهقين والشباب الذين يمثلون أغلبية سكان العالم اليوم وغداً. والذين يتم العمل على إحلال ثقافة (عولمية ) -وللدقة أميركية- في نفوسهم بدلاً من ثقافاتهم المحلية والوطنية والقومية.. ولعل أفضل عبارة تحدد هذه الغاية تلك التي تقول « المراهقون والشباب على امتداد العالم يجب أن يشبهوا بعضهم وفي الوقت ذاته يجب ألا يشبهوا آباءهم»..‏

والأمر لا يقتصر على إحلال عادات ومفاهيم استهلاكية تجني أرباحها الأسطورية الشركات العملاقة العابرة للقارات.وإنما تصنيع فكر الأجيال المستهدفة بما يتناسب مع المصالح الاستغلالية لقوى الهيمنة، قد يبدأ الأمر من الإعجاب بأغنية تمجد القوة المستعمرة، أو فيلم ينتصر للغزاة على أصحاب الحق والأرض، كأفلام إبادة سكان أميركا الأصليين الذين نعتوا بالهنود الحمر، وأفلام الحروب العدوانية في فيتنام وإفريقيا والبلاد العربية، ثم يتحول الحال إلى المشاركة في النصر الأميركي عبر الألعاب الالكترونية، ليصل أخيراً إلى تصنيع فكر يتحد تماماً مع الفكر الاستعماري، ويقف تماماً في موقع المعادي لشعبه ووطنه..‏

هذا ما يفعله الإعلام العالمي الواقع تحت الهيمنة الأميركية، وهذا ما تصنعه وسائل الاتصال الجماهيري ذات الإمكانيات الهائلة التي تعمل بتوجيهه.وربما لو أن جبران خليل جبران قد عاد إلى الحياة لبدل مقولته الشهيرة من:‏

أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحياة‏

إلى:‏

أولادكم أبناء الإعلام..‏

www.facebook.com/saad.alkassem

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية