تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بائعة العذاب

ملحق ثقافي
29/7/2009م
بسام الطعان

يا لهذا الإنسان.. كم هو أشد المخلوقات طمعاً.. بعدما فعل (سعيد) بصديقه ( ياسر) ما فعل، لم يسمع غير نحيب مر ينبثق من مكان ما، ولم ير غير ليل أسود آت.

صديقه الحميم الذي كان دائما ينوّر أمامه الدروب، ويرسم الآمال والأفراح في عالمه، صديقه وهو، خرجا في السادسة صباحا في رحلة صيد، قطعا مسافات كثيرة في ربوع الجزيرة ، بحثا عن الزرازير والقطا والحجل والدرغل، لكنهما لم يجدا غير عصافير الدوري.‏

أصابهما الملل والتعب، وكانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ظهرا، فجلسا بجسدين من شمع بالقرب من صخرة كبيرة مزروعة على الضفة اليسرى من نهر الخابور، تأملا بصمت الماء الرقراق العذب وهما يكدسا الأماني والأحلام فوق بعضها البعض، ثم سافرا في زورق صنعاه من خيال إلى أزمنة وأمكنة كثيرة، ولم يعودا إلى مكانهما إلا بعد أن سمعا على غير توقع، دندنة أغنية جميلة تأتي من جهة ما.‏

ـ من أين يأتي هذا الصوت الجميل؟ قال صديقه وهو يرسل نظراته في كل الاتجاهات.‏

فتح عينيه كالأقحوان، نظر من حوله، وتنهد معلقاً:‏

ـ يبدو أن النهر هو الذي يغني!‏

الغناء الناعم ملأ قلبيهما دفئا وتألقاً، أخذهما إلى سهول ووديان مزروعة بالقرنفل الأحمر، وترك كل منهما لا يشعر بالآخر.‏

أي منهما لم يكلف نفسه عناء البحث عن مصدر الصوت الذي بدأ يخترق حواجز الصمت والدهشة، وينداح إلى آفاق بعيدة، وكأنه صوت ملاك قادم من عالم آخر.‏

لأكثر من خمس دقائق وهما كتمثالين ، وفجأة، ويا للروعة والأبهة، شاهدا فتاة تقف أمامهما، لم يعرفا من أين خرجت، ومن أين جاءت، هل جاءت من عالم الأنس أم من عالم الجن؟‏

كانت ممتلئة الجسم، تمتلئ بالكنوز، تتوقد فيها الأنوثة الصارخة، يسيل منها عطر مخلوط برائحة اليانسون والبابونج البري، ترتدي تنورة حمراء قصيرة وضيقة، وقميصا أزرق ينحسر عن أجزاء من صدرها فتبدو أكثر إغراء، وكان شعر أسود طويل وفيه بعض الخصلات الذهبية.‏

تقدمت نحوهما تسبقها موجة من سكر نبات، وقفت أمامهما مباشرة، لملمت خصلات شعرها، ابتسمت فابتسمت الدنيا كلها، وزعت نظراتها عليهما بالتساوي، ثم قالت بصوت واثق ويشبه صوت طائر الحسون:‏

ـ هل تعرفان من أنا؟‏

مثل تنابل بغداد بقيا.‏

ـ أنا قرنفل أحمر وبحاجة إلى تراب، من منكما يريد أن يكون ترابي؟‏

تأملها (سعيد) بإعجاب واندهاش، فرآها شفافة كقطرات الندى، ورأى في عينيها أشرعة ضيعت بحارها، ومن شدة فرحه رأى الكون وقد تحول إلى بركان عشق ثائر، فتبعثر بين مدارات الكون ومجراته، تغيّر سلوك الدم فيه، فتملكته شجاعة منقطعة النظير، قال وهو يمد لها ذراعيه كمجدافين حنونين:‏

ـ أيتها القرنفلة الاحلى، جذورك عميقة في ترابي فتعالي إليَّ.‏

أما( ياسر) فتحول في لحظة إلى حاسد وربما عدو، هبَّ واقفا، تقدم نحوها، مد يده الملوثة بجمر الهذيان:‏

ـ لا تستمعي إليه، إنه كذاب، أنا ترابك ولا أحد غيري.‏

ـ أنا...‏

ـ بل أنا...‏

تغيّر كل شيء فيهما، أو ربما هي التي غيّرتهما، تغيّر ياسر كان غريبا ومفجعا، وتغيّر سعيد كان وحشيا، وجه ياسر إلى صديقه صفعة قوية مع كلمات قاسية وصادمة للروح والجسد، فشعر بحزن كبير وخرجت من عينية الدموع، فهو لم يبك الصفعة قدر بكائه صديقا مات فجأة أمامهن وكان يكن له كل الحب.‏

إهانات ياسر لسعيد كانت كبيرة، وشتائمه أكبر، فلم يتحمل، أمسك بيده بقوة، برمها إلى الخلف، وبحركة سرعة رماه أرضا، جثم فوقه، وطوقت أصابعه العشر عنقه، ولم يكن يدري أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة حين سمعه يقول بحشرجة:» كيف تسمح لأنثى أن تفرق بيننا؟» لكنه لم يستمع إليه وظل يضغط على عنقه، كيف يستمع إليه وكل جوارحه قد ذهبت إلى من تمد يديها للحب وتبيع الجسد دون مقابل؟‏

أما هي فكانت تنظر وجوارحها تبتسم.‏

نهض من فوق جثة صديقه بهدوء، اقترب منها وهو يبتسم، مديده المشتعلة بالشوق ليأخذها إلى ملاعب الحب، ولكن يا للدهشة والغرابة، اختفت من أمامه في لحظة كما جاءت في لحظة، اعتقد أنها تريد أن تتلاعب به، فأرسل لها أغينة عشق علنية، نصبها فخاً لها، لعله يصطادها بأنغامها، لكنه بقي وحيداً، بلا صديق أو حبيب، ويا لهذا المنظر الذي لم تألفه عيناه، منظر أوقد الارتجاف في جسده وكاد يسحقه تحت مسننات الرعب، فاض النهر خلال ثوان، اختفت ضفافه، وامتلأ بالتماسيح الشرسة، وبعد لحظات اتجهت كلها صوبه وهو يسبح ويبكي ويحاول الابتعاد عنها، وعن الشياطين والأشباح التي رآها تنتشر بكثرة من حوله، وكانت جثة صديقه تطفو على سطح الماء ، ومن فوق كانت آلاف الطيور السوداء ترفرف بأجنحتها، تطلق زقزقات غريبة، وتعلن أن الليل الأسود آت.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية