تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عن السيدة مصونة

ملحق ثقافي
29/7/2009م
خيري الذهبي

إلى السيدة المصونة والجوهرة المكنونة, درة النساء, وسيدة من تحت السماء, وفخر بنات حواء............

كان أول تعرفي على كلمة الأسلوب حين حاصرني شاب في حارتنا بهداياه وتحياته حتى بت أتحاشاه هارباً كلما لمحته من بعيد إلى أن تكشف الأمر عن أن الشاب عاشق وأنه يريد مني وأنا الطفل المتعلم أن أكتب له رسالة إلى المعشوقة المحجوبة, ولما تنفست الصعداء, وكتبت له الرسالة, طلب مني أن أقرأها عليه , ولما قرأتها مثقلة بكل المفردات المنفلوطية التي كان كل من حولي في المدرسة والمدرسين يلحون على أنها درة الإنشاء الجميل...... , حين قرأت عليه ماكتبت رأيت الخيبة على وجهه, ونظرة المرارة في أنه وضع ثقته وفضح سره أمام طفل, وقد قالها أخيراً: ما عندك أسلوب.‏

كانت الكلمة جديدة علي ولم لاتكون, وكل معارفي في الأسلوب !!! كانت مقصورة على الروايات المترجمة عن موريس لوبلان, وآرثر كونان دويل, وأدغار والاس, ولما كانت المغامرة مبهرة في أن أدخل عالم مغامرات الكبار, حين أراه يلهث وهو يحدثني عن جمالها, ورفض أبيها خطبته لها, وأنه ينتظرها من الأسبوع حتى الأسبوع التالي حين تخرج إلى الحمام العمومي مع أمها, فيلاحقهما, أو يلاحقهن, إن صحبتهما بنات العم والخالة حتى الحمام.‏

كانت كلمة أسلوب جديدة وقد أخفق في تفسيرها لي, ولكني حين ألححت رجائي أن أكتب بالأسلوب الصحيح, وكتبت: إلى السيدة المصونة والجوهرة المكنونة....... كان يحفظ جملاً وكليشيهات لم أكن قد سمعت بها من قبل , ولكنه كان يعتبرها درة مايمكن أن توصف به امرأة, أو يكتب إليها.‏

ولما كنت في كتابتي للرسالة الغرامية الأولى قد استغنت بالمفردات المنفلوطية من الأرق, والحرمان من النوم عشقاً, إلى السير تحت نوافذ الحبيبة وحمل الزهور إليها, ولما لم يكن في الحارة نوافذ للحبيبة تفتح على الحارة, ولم يكن حمل الزهور إليها ممكناً فدون ذلك سور من آباء غاضبين وإخوة متوترين, وأبناء عمومة متحمسين.‏

فقد حصل ما سيحصل دائماً فيما بعد وكثيراً, وهو اصطدام الأسلوبين, فقد كان الشاب مخلصاً لأسلوب ماقبل المنفلوطي, وكنت مجبراً حسب ضغط المدرسة والمدرسين على الإخلاص للأسلوب المنفلوطي.‏

فيما بعد وبعد زواج الشاب من امرأة أخرى غير المعشوقة, فرسالة العشق التي كان يفترض بها أن تمهد له الطريق إلى قلبها لم تكتب, وحفنات السكاكر والقضامة التي كانوا يرشوني بها انقطعت.‏

فيما بعد وحين يتقدم بي التعليم, ويقع تحت يدي كتاب ( صبح الأعشى في كتابة الإنشا ) لكاتب من العصر المملوكي كان اسمه أحمد القلقشندي سأرى وأقرأ المنهج النظامي لتعليم الإنشا, ولكنه لم يكن المبدع الأول في ذلك الفن, فقد سبقه كثيرون من الكتّاب حاولوا أن يصنعوا ( الأسلوب ) وأن يعلموا (الإنشا) وكان منهم ابن قتيبة صاحب (أدب الكاتب) وكان منهم المبرِّد صاحب كتاب (الكامل), وكان منهم الجاحظ صاحب كتاب ( البيان والتبيين), وكان منهم القالي, أو الكيليكي, فكليكليا كان اسمها بالعربية قالي قلا ومنها اشتقوا اسمه القالي, صاحب كتاب ( النوادر ).‏

السؤال هو: لماذا كان الإصرار على وضع منهج وطريقة في الكتابة يجعلونها النموذج حتى ليرفض صديقي العاشق أسلوبي المنفلوطي, ويقول: ماعندك أسلوب. ويصر على الأسلوب العثماني السابق: السيدة المصونة, والجوهرة المكنونة.‏

طبعاً كان سيد التقاليد, وسيد واضعي المنهج في آداب التسميات والخطاب هو القلقشندي ولنسمعه وهو يعلمنا كيفية مخاطبة النساء في الكتابة, فيقول إذا خوطبت المرأة قيل لها, الدار الكريمة, والستارة الرفيعة, والجهة المصونة, أو العالية، والمعظمة, والمكرمة, والمحجبة, والمصونة.....‏

أما إن أردت مخاطبتها بألفاظ مركبة فيمكن القول: جلال النساء, وسيدة الخواتين في العالمين, والخاتون هي الأميرة, أو المحترمة,و.......شرف الخواتين, وجميلة المحجبات,وجليلة المصونات و..........‏

أما الرجال فيمكن مخاطبتهم: بالسيد القاضوي إن كان من أرباب الأقلام, أي الكتّاب, والقدوة, أو القدوي نسبة للمبالغة, والقضاميري وهو نحت من القضاء والأمير!!!!!‏

صبح الأعشى في صناعة الإنشا انقضى على وضعه حوالي السبعة قرون وقد صارت تعاليمه التي ظلت المنهج بائتة ومثيرة للضحك, ولكن ....... حين تقرأ نصاً لكاتب مبتدئ معاصر يخطئ في النحو والإملاء ويخلط الأزمان والضمائر في جملة واحدة, ألا يحق لنا التساؤل أليس من الضروري إحياء قلقشندي, أو قالي قلاوي جديد ليعلم هؤلاء الشبان أولويات الكتابة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية