تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


غياب المبدعين.. هل غيّب النقاد الكبار؟

ثقافة
الأربعاء 29-7-2009م
د. جهاد طاهر بكفلوني

يكاد المهتمون بالأدب يجمعون إجماعاً شبه تام على وجود مياه راكدة تشكل مستنقعاً يحول دون جريان مياه الحركة النقدية بسلاسة وانسياب،

الأمر الذي يجعل منها مياهاً تتجه تدريجياً لتصبح آسنة، وأمام وطأة المشهد يقف فرسان النقد في حالة يمكن وصفها بعدم القدرة على التحرك إن لم نصفها بالعجز المطبق.‏

وقلما تخلو مقالة تتناول الحركة النقدية في سورية من سوق جملة من العوامل التي يستنتج منها القارىء أن هذه الحركة في وضع لا تحسد عليه، ويصل إلى قناعة بأن عودتها إلى حالتها الطبيعية مسألة غير محسومة على المدى المنظور، وهي مرتبطة بعنصر الوقت الذي يرفض حتى يومنا هذه ضرب أجل محدد لقرب شفائها.‏

وبعيداً عن إعادة سرد هذه العوامل، لابد من الإشارة إلى عامل أغفله الدارسون والباحثون، ولعله يأتي في مقدمة هذه العوامل، ونقصد به ربط الحركة النقدية في سورية بالحركة الفكرية عامة والحركة الأدبية بشكل خاص. ونقترب أكثر من أذهان القراء فنعيد إلى ذاكرة كل واحد منهم هذا العامل ونقول إن ازدهار حركة النقد مرتبط ارتباطاً لا تنفصم عراه بازدهار النشاط الفكري، وتفتح أزاهير الفنون الأدبية من شعر وقصة ومسرح ورواية.‏

ولا بأس من العودة إلى العقود الأولى من القرن العشرين وما تلاه من عقود حين ظهرت على الساحة الأدبية أسماء كبيرة في عالم النقد، في كل من مصر وسورية والعراق وغيرها من الدول العربية، مع الإشارة إلى أن هذه الأسماء ظهرت في الوقت الذي تألقت فيه أسماء كواكب مضيئة في سماء الشعر والقصة والمسرح، فظهور أسماء مثل أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، خليل مطران، جميل صدقي الزهاوي، محمد مهدي الجواهري، عمر أبو ريشة، بدوي الجبل واقتصرت هنا على زمرة الشعراء، هذا الظهور أدى إلى بروز أسماء كبيرة في عالم النقد وبعض هذه الأسماء سبق له أن مارس الشعر كتابة ثم انتقل إليه نقداً، وكان قادراً على معرفة غثه من سمينه، وهنا نتذكر أسماء من وزن عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، شوقي ضيف، محمد مندور، طه حسين، أكرم زعيتر، ابراهيم العريضي، إحسان عباس، وغيرهم.‏

كان الناقد من هؤلاء يأخذ بيد القارىء ليدخله إلى العالم المجهول للشاعر من خلال سبر أغوار القصيدة، وتفكيك جزئياتها لغوياً وخيالاً وما وراء الواقع،حتى ليشعر القارىء بأن الناقد يعرف أسرار القصيدة أو القطعة الأدبية التي يتناولها بالدرس والتحليل قبل إطلاق الحكم عليها أكثر من كاتبها نفسه، وهنا أتذكر رسالة الدكتوراه التي أعدها الباحث اللبناني د. (خريستو نجم ) عن نرجسية الشاعر نزار قباني فكانت بحق نوراً اخترق مجاهل أعماق هذا الشاعر وعرف عن مناطق غائرة في عالمه الجاهلي لا أغالي إذا قلت إنها كانت مجهولة حتى للشاعر نفسه.‏

هؤلاء النقاد كانوا يتناولون بالتحليل العلمي المدروس البعيد عن العاطفة المحبة أو الكارهة قامات شعرية تركت بصماتها المضيئة في حياتنا الثقافية، وكانوا يشعرون بفداحة المهمة الملقاة على كواهلهم وهم يتصدون لعمل من أعمالهم دراسة ونقداً، فالرقيب الداخلي في هذه الحالة كان يقوم بدور إيجابي إلى أبعد الحدود، وربما تناول المبدع ما كتب عن عمله بشغف أكبر من القارئ المحب لهذا المبدع، ليقينه بأن ما ساقه الناقد من أشعة مسلطة على مكنونات المبدع يساعده في الانطلاق في المرات التالية على طريق الإبداع ببصيرة أكثر إلماماً بالعثرات التي قد تترصده فيسعى لتجاوزها وعدم السقوط في حفرها المخيفة أو المنظورة.‏

لكن الأمة العربية بعد هذا الخصب الكبير الذي نشر أقواس قزح هؤلاء المبدعين الكبار ليلونوا بها عالمنا الفكري أصيبت بحالة من العقم الذي نرجو ألا يكون مزمناً، فغابت الأسماء الكبيرة بعد رحيل أولئك الذين أثروا حياتنا الأدبية أيما إثراء، وظهرت على صفحات الصحف والمجلات أسماء باهية شاحبة لم تستطع أن تقدم شيئاً ذا بال في دنيا الإبداع.‏

وقد أدى غياب الأسماء الكبيرة المبدعة أدبياً إلى غياب الأسماء الكبيرة في الحركة النقدية، ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا ظهور الأسماء الكبيرة في عالم النقد لن يتم إلا إذا ظهرت من جديد أسماء كبيرة في عالم الفكر والإبداع، والزمن سيكون خير شاهد على صحة دعوانا.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية