تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عاصمة التاريخ

كل أربعاء
الأربعاء 29-7-2009م
سهيل إبراهيم

اعتمدها العرب عاصمة للثقافة العربية للعام الجاري 2009، واعتمدتها الجرافات الصهيونية ملعباً للخراب،

تتهشى دورها وزيتونها وورودها الطالعة من حيطان التاريخ، هيأ لها العرب والفلسطينيون شعرهم ومسرحهم وموسيقاهم وفولكلورهم، ونصبوا المنصات والمنابر قرب أسوارها، وهيأ لها الحاخام عوفاديا يوسف وأقرانه المسكونون بالأساطير والأوهام، مقاطع من أسفارهم ، رتلوها في دروب حي السلوان، وعلى أنقاض حي الشيخ جراح وبأيديهم سكاكين قاطعة شحذوها لاستئصال لسان القدس، وتمزيق قلبها الجريح الذي مازال ينبض تحت قبة الصخرة المتوجه بجلال الزمن الذي مافتئ يدور من حولها!‏

تلك التركة الكنعانية التي يكشف المؤرخون أن السواعد اليبوسية قد شادتها أول مرة لتنتخبها السماء فيما بعد مقراً أو ممراً للرسل، فآدم فيما يروى قد مّر فيها، وإبراهيم الخليل من العابرين على ترابها، ثم ملك داوود وملك سليمان قبل الميلاد، ومغارة المهد ويوم القيامة ، في القرن الأول الميلادي، ثم المسرى والمعراج فيما بعد ، ورحلة لم تنته بعد في فجاج التاريخ!‏

تلك التركة الكنعانية ، كيف لمدينة واحدة على هذا الكوكب الأرضي، أن تتسع لكل أطوارها ، ولكل ماتختنزنه من وقائع التاريخ وأسرار السماء، وكيف لمدينة واحدة اغتسلت بكل هذه الثقافات ، وأضاءت عيناها بكل تلك الرؤى والصور، أن تترنح في النهاية تحت ضربات المعول الصهيوني بحثاً عن هيكلين ضائعين في النصوص وفي الخرائط.‏

كم ذاكرة تستيقظ اليوم في القدس، وكم أسطورة تبني أعشاشها في بساتينها ، وكم حرب تطاير شررها على أسوارها وكم صلاة اغتيلت فيها على عتبة مسجدها ، وعلى وقع رنين أجراس كنائسها ، وكم دواة فرغت من الحبر ، قبل أن تكمل الريشة كتابة قصتها ، لكأنها منذورة منذ أن لمست أحجارها يد آدم أول مرة كي تستأثر بالتاريخ، وتستدرج خطاه نحوها كلما شرد في جهة من جهات الأرض!‏

استهدفها الغزو مرات كثيرة ، وفي كل مرة كانت تنفض عنها الغبار ، وترد الغزو ،وتعتمر كوفيتها ، وتعيد زراعة حقولها بالزيتون واللوز الأخضر وتتنفس فيها عروبتها معافاة من سموم الغزو ، حاضرة شامية لم يدنس نسبها ، ولم يذبل غصن واحد في شجرة عائلتها ، تتوسط فلسطين كقلادة نادرة على صدرها ، قادمة من كنوز التاريخ السحيق!‏

علتها اليوم، وهي تصارع مغتصبيها أنها تحمل كل هذه المعاني وتختزن كل تلك الثقافات ، وتنتسب لكل هذه الأمة، التي ينوي بعض ولاة أمرها ، أن تنصرف من دفتر التاريخ ، وعلتها اليوم انها التصقت بحجارتها ولم تذعن لإنذارات الهدم والترحيل، ولم تسلم مفتاح الأقصى لعوفاديا يوسف وأساطيره وأوهامه ، ولم تبدل في وصايا عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني ، ولم تنكث عهداً مع القلوب التي تطير شوقاً للحج إلى كنائسها!‏

تلك التركة الكنعانية التي اعتمدها العرب هذا العام عاصمة للثقافة العربية ، واعتمدها المحتل ملعباً للخراب ، تستجمع قواها اليوم لتقيم مهرجانها في بيت الشرق ، فيغني لها محمود درويش (لاأريد لهذي القصيدة أن تنتهي ) فترسل باقة ورد الى مثواه، ويخطب فيها فيصل الحسيني خطابه الأخير، فتمشي في وداعه الى آخر التراب، ويرن في أذنها صوت (أبو عمار) من حصارها الأخير فتقرنه السلام ، ثم توزع خبزها وفاكهتها على العائلات المقدسية الباقية لحراسة القدس بين الحراب والحراب ، وفي منتصف الليل تضع رأسها على وسادتها لتكمل لنا القصة قبل أن تنام، قصة المدينة التي ضاقت بالتاريخ واختزنت ثقافة الدنيا منذ فجر الدنيا الأول!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية