تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


محطـــات ثقـــافية

ملحق الثقافي
28/3/2006
يكتبها فايز خضور

كان جميل بين مَعْمَر يتنزه ذات أصيل، شارداً ذاهل اللب، كأنما أفدحه مَغْرَم، أو أبهظه مَغْنَمْ، وقت تراءت في حاجب الأفق ثلة من الغزلان والظباء،تتبختر مياسة مع النسيم، لحظة« اقتربت الساعة وانشقّ القمر»، فكانت قاصمة الظهر.

إنها صعقة الحب التي أَنقضت صُلْبَه، وأثقلت قلبه بوزر لم يَسْعَ إليه، ولم يحسب له حساباً:« إنه الحب»، صائلاً وجائلاً حتى الضنى.وكان اليوم واحداً من أيام الأعياد، وكانت « بثينة» الغزالة في طليعة أترابها فتسمرت عيناها، وارتعدت مفاصلها، لرؤية غريب يحدِّق فيها كالمجذوب.. وهكذا انداح الهوى لايعرف التخوف، ولا الخوف من عواقب الافتضاح، وشاءت قوافل الأيام، ولكن سوء الطالع، والرياح غير المؤاتيه، والظروف الصعبة، ساءت أن تقترن« بثينة» برجل سِواه. فلم يزده ذلك إلا فتوناً ونجوى. ولم يفلح أهله في إقناعه بوجوب الكف عن هوى امرأة ليس له من أطايبها غير نعيم الأوهام، ومرارة الأحلام، وقد اعترف جميل بأنه من الحماقة أن يذوب الرجل وجداً بامرأة، تكون أطايبها في زمام رجل غيره، ولكنه اعتذر لكونه لايملك الصبر عن الهُيام بتلك المرأة، التي ملكت عليه غيوم روحه وخلايا جسده ونفسه.. وجميل كبدوي قد سَخِرَ من العبارات التي وُجِّهت إلى من يعشق« امرأةً لها بعل». ولم تقف مصيبة الحب عند الهيام بامرأة متزوجة، لاتُنال منها المطالب الجسدية إلا عن طريق« الإثم»، فقد وقع للحبيبة بثينة عشقٌ جديد مع رجل اسمه« حُجْنة الهلالي» وبذلك وقعت الجفوه بينها وبين جميل، وهي جفوة لم تشفه من جواه، لأنه كان قد وصل إلى حالة لاينفع فيها دواء، ولارُقْية أو حجاب.. أو تعويذة..!! إبّان تلك المكابدة والمعاناة،لتلك الكروب الوجدانية صدر أمر من الوالي بإهدار دم جميل إن فكر في زيارة بثينة. فرحل إلى اليمن مرةً، وإلى الشام مرةً، وطالت به الحَيْرة في تلمس أسباب الخلاص من هواه وبلوه. فلم يجد بداً من الرحيل إلى مصر، وفي مصر ظَفِرَ بالشفاء الأعظم. ألا وهو الموت..!! وهكذا رأينا ذلك الفتى المتيم، يَخضع لهواه الأول ويفنى فيه وحيداً،مع أن له من عرامة الفحولة، وصباحة الوجه، ومن فسحة العيش، ومن أصالة النسب، ما يسمح بأن« يُنقِّل» هواه إلى حيث يريد، بلامشقة، وهل تضيق دنيا الحب والصبابة، في وجه رائدها..؟! وتدخُّل الوالي يحمل مدلولاً يشير إلى أن من حق أهل بثينة وقومها أن يقتلوا عاشقها إن وجدوه في ديارهم، بلا تخوّف من القِصاص والتجريم. مع أن قوم بثينة أقل عزةً من قوم جميل، ولكن سلطان القوم لايزول.. وإن الحب الحقيقي« يُذِلُّ» في معظم الأحيان، حيث لاعائلات، ولا صراع طبقات لها شأن أو خيار فيه. وقد كان يرد على لائميه، والمستخفِّين بسوء أحواله، قائلاً:ما الذي أستطيع أن أصنع، وقد حلّ الهوى بروحي حلولَ العلة العاتية في البدن الضعيف؟!.. وبعضهم يقول: إن الهوى إرادة خفية، هي إرادة القَدَر الذي يتصرف في القلوب دونما رحمة.!!.. إنه جميل الذي صيّره الهيام بامرأة لها بعل، سُخْريةً للساخرين، وقضى عليه بالتشريد والاغتراب خوفاً من عسس الوالي، ولكن هيهات. فهل الخوفُ أم العفاف، أم كلاهما معاً، قد أوصلاه إلى هذا الهلاك..؟! قصته تقول: كان جميل مفتوناً بجماله وشبابه أشدَّ الفتون. ومع ذلك فإنه ما كان يرى فتى يمر بالديار، إلا وثارت في نفسه الغِيرةُ على بثينة، وإن كانت تفصل بينهما الأميال.!!. وقصة غرام بثينة بحُجْنة انفضت سريعاً كسحابة صيف، ربما وضعها الرواة لتعترم صبابةُ العاشقَين، وليكون هواهما مثلاً في صدق اللوعة والصبر على مكاره الحب العاصف.. وتتمادى القصة إلى أن بثينة قد تعرّضت -أيضاً- إلى حب عاشق فاتك هو عمر بن أبي ربيعة، حيث تلقته بالسخرية، واللذع الأليم، كي يَعرف أنه أضعف من أن يَخْلُفَ جميلاً في احتلال قلبها« الحصين»..!!. وللناس فيما يعشقون مذاهبُ..!!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية