تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جدلية النفسية

ملحق الثقافي
28/3/2006
يحيا الانسان في ثورة نفسية داخلية دائمة .

فكما انه يتعارض مع الطبيعة والكون نتيجة لثورته الفكرية، كذلك، وبالطريقة ذاتها، يتعارض مع ذاته نتيجة لثورته النفسية. والحق، أن قولنا هذا يعني وجود تيارين ظاهريين في الكيان الإنساني:تيار يجذبه الى اعماق وجوده المادي الخارجي وتيار آخر يجذبه الى أعماق كيانه الداخلي، وذلك لكي يرتفع في عالم وجوده ويسمو بكيانه. ولئن كان هذا التعارض ظاهرياً، لكنه يصبح داخلياً إذ تتعمق جذوره في الانسان. وأما ظاهرية هذا التعارض فإنها تؤدي الى عدم وجود الشر ككيان أو حقيقة قائمة بحد ذاتها، وذلك لأنه مجرد انعدام للخير. والحق،أن احتمال تحول هذه الظاهرة الى صراع داخلي موضوع يشير الى عمق الشر في الانسان الذي يجزىء كيانه الى ثنائية وتعدّد ويؤدي الى انقسام داخلي يؤدي، بدوره ، الى الصراع الداخلي. لذا، يعد الشر نفياً للخير بحيث انه لايوجد إلا بانعدام الخير، ولايشكل وجوداً لأنه انعدام لجوهر بسيط واحد، تماماً كالظلام الذي هو انعدام للنور. استطعنا أن نتعرف إلى أبعاد الثورة الفكرية التي ترينا الانسان ،في ظاهره، ماهية وفكراً والطبيعة موضوعاً. وتضعنا الثورة النفسية في قلب الصعوبة ذاتها لأنها ترينا الانسان كائناً يحاور نفسه. وإذا ما تساءلنا: ما الانسان وما نفسه؟ وهل يؤدي التعارض بينهما الى توطيد ثنائية كامنة فيه؟ أجبنا قائلين: لايتكون الإنسان من ثنائية حقيقية ولايتألف من ازدواجية الخير والشر أو النور والظلام إلخ إلا ظاهرياً .أما الثنائية فليست أكثر من عملية جدلية تنفي النفس، من خلالها،ذاتها لتعود الى حقيقتها.و في هذا النفي، يعاني الانسان من التناقض والتضاد الظاهرين في ظاهرات الموضوعات والاشياء فقط. ومع ذلك، تظل مسألة حوار الانسان مع نفسه،أو جدله معها، قضية قائمة. يصعب على الانسان ان يدرك حقيقة نفسه ما لم يعمل على نفيها على نحو جدلي؛ هذا لأن نفي أو نقض القضية أو المعرفة يعني تجاوزها الى قضية أسمى أو معرفة أسمى، تماماً كالشك المعرفي الذي لاينفي اليقين بقدر ما يساعده على التطور، عن طريق الحوار الداخلي، الى يقين أسمى.إذن، فالنفي أو النقيض عملية أصيلة في الوجود على مستوى كوكب الارض. وعندما ينفي الانسان نفسه يرى صورته في المادة والطبيعة والكون فيجد نفسه.و لاتعتبر الصورة التي يشاهدها مادية أوروحية، بل روحية ومادية في آن واحد، وذلك لأنها حقيقة واحدة.والحق، ان النفي أو الحوار قضية لاتشير الى إحداث انقسام بين المادة والروح. لذا، كانت صورة الانسان هي نفسه، هي انعكاس الروح في المادة، او تحول الروح الى مادة. وقد اتخذ هذا الانعكاس صورة الوعي الكوني أو الحقيقة السامية الكلية. فأصبح للإنسان نفس.فالإنسان هو الروح والنفي هو انعكاس الروح في الوجود؛ هذا الانعكاس الذي يتمثل في مادة الجسد إذ تحل الروح في أداتها المحولج.وتعتبر هذه المادة نفياً للروح أو جدلاً معها أو انعداماً لها تماماً كما يعتبر الشر انعداماً أو نفياً للخير.ومع ذلك تظل النفس صورة للروح كشعور لها بوجودها في عالم المادة، وذلك لأن النفس تتولد عندما تحل الروح في المادة.و عندما يفكر الانسان في جوهره، يجد انه لايتمكن من فهم حقيقته لانه يعاينها من خلال نفسه التي هي مادية وروحية، ولاتتمتع بكيان خاص بها، وتكون هذه النفس، التي يسيء فهمها، قناعاً أو حجاباً يمنعه عن رؤية الحقيقة بوضوح. وهكذا، يثور الانسان على نفسه، من خلال جدل أو نفي، أو حوار، أو تعارض داخلي، لكي يستعيد على واحدية كيانه وحقيقته التي أضاعها بعد أن انحدر الى نطاق الثنائية والتعدد. يعد الجهل، او عدم رؤية الحقيقة على نحو واضح، صراعاً بين الانسان ونفسه، إذ تكاد الحقيقة تظهر له في ثنائية وتعدد وتنوع. ولئن كان الانسان ثائراً على وضعه الثنائي وساعياً الى معرفة نفسه على نحو كيان متحد، لكن جدله النفسي المتمثل بالحوار الداخلي والخارجي يتجلى في حيرة وتيه إزاء عملية التحرر والانعتاق التي تعبر عن معاناة الروح التي اقحمت ذاتها في عملية النفي والجدل الناتجة عن الانقسام الثنائي والتنوع والمتكثر. وفي هذه الحالة، تبدو المادة منفعلة إذ تتمرد على الروح التي هي جوهر وجودها وذلك لأن الأدنى يتمرد على الأعلى، فينفيه. أظهرلنا الجانب السلبي للثورة الفكرية ان الانسان ، الذي يجهل حقيقته، كائن متمرد، وأن التمرد ينشأ عن المشكلة التي تورط بها الانسان، مشكلة وجوده في عالم يصعب فهمه وإدراكه. ولما كانت الحقيقة كياناً يغلفها الغموض من خلال ثنائيتها وتنوعها الظاهريين، فإن الانسان يتمرد عليها إذ يرفض وجوده المادي دون ان يفهم عمقه وسره. وقد بدا هذا التمرد عند آدم، الإنسان البدئي، إذ تحدّى الحقيقة السامية بعد أن تبنى عقله الثنائية، فانفعل ورفض. اما الانفعال فإنه يطيح بقدرات العقل والطاقات البانية في صميم الكيان. ولقد أدى هذا الانفعال الى بقاء الانسان في حالة قلق وتذمر، وفي اضطراب عقلي وتشويش نفسي، كما ادى الى إنكار دائم للقوى العاقلة والواعية في الكون. وما ان تنكر لها الإنسان حتى ألقى بها الى اعماق نفسه. على نحو لاواع، واحتجزها في أناه ،الأمر الذي يشير الى ترسب« اللاوعي النافي» وتراكمه، والى تركيزه في اللاشعور.وتألم الانسان ألماً سلبياً لأنه تنكر لجوهره الممتد الى اللانهاية الكونية. وهكذا، احس الانسان بعبث الوجود ونادى بلاجدواه، وصب نقمته على الحقيقة السامية التي ينكرها علانية ويعترف بها ضمناً.واعاد الانسان كل شر مزعوم في هذا العالم الارضي الى المطلق الكوني،و نسي أن كل ما يعلنه أو يتقبله بتفكيره السلبي صادر عن تجسيد الثنائية والتنوع في تضاعيف فكره. هكذا، يتمرد الانسان على نفسه ويقيم عداوة معها لأنه يجهل حقيقته. ثمة جانب ايجابي للثورة النفسية يتمثل في معرفة النفس وتوحيد وظائفها في الكيان المتوازن والمتحد بأبعاده. وثمة جانب سلبي للثورة النفسية يتمثل في نفي الحقيقة الإنسانية، والصراع معها،و في جدل يجزىء الوحدة الإنسانية، والكيان المتكامل في جوهره.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية