|
صفحة ساخرة الحادثة الأكثر غرابة في تاريخ بطلنا خالد وهج النار تتعلق بآخر سنة أمضاها في المدرسة، وكان قد وصل إلى الصف الرابع الابتدائي، ليس بفضل ذكائه ونباهته، حاشا وكلا، ولكن بفضل ظروف ومتغيرات معقدة طرأت على المدرسة خلال السنوات التي أمضاها فيها. ففجأة، وعلى حين غرة، عثر خالد على نسخة من مجلة (المصور) المصرية المكتظة بصور الفنانين والفنانات، ولا يدري أحد كيف وصلت هذه النسخة إلى بلدتنا في تلك الأيام، خبأها تحت قميصه، وبمجرد ما خرج التلاميذ إلى الباحة في الفرصة بين حصتين مزق صفحاتها واحدة واحدة وسارع إلى تعليقها على الجدران. وحينما دخل المعلم الأستاذ عبد الغفور إلى الصف وشاهد الصور صعق، وسارع من توه إلى إبلاغ المدير، فحضر يرافقه الآذن وبدأ الثلاثة بالتحقيق مع التلاميذ.. مستخدمين الضرب على الأرجل والأكف، والتقريع والتهديد.. أكثر من ساعتين حتى استطاعوا أن يحصروا التهمة باثنين، أحدهما خالد وهج النار، والثاني تلميذ بليد يحتل القرنة الثانية من الصف اسمه كاسم، وهو لم تكن له علاقة بالمجلة، وبحياته لم ير مثل هذه الصور، ولكنه حينما سئل عن علاقته بها لم ينكر، فطردهما المدير من المدرسة مشترطاً عليهما ألا يرجع أي منهما من دون اصطحاب ولي أمره. الفتى كاسم وجدها فرصة ذهبية لترك المدرسة على نحو نهائي، أما خالد ففكر أنه لو طلب من أبيه أن يرافقه إلى المدرسة - وهو في الأساس معارض لبقائه فيها - فإن أقل شيء ممكن أن يفعله هو تعجيقه بقدميه مثلما كان يصعد هو، بناء على طلب أمه، فوق كيس من الخيش مملوء بالحصرم، ويعجق عليه صعوداً وهبوطاً بقصد أن يعصره لتعبئه أمه في القناني وترفعه على الرفوف لتصنع منه الفتوش ومرقة المحشي وسلطة الخس في الشتاء القادم. وبعد طول تفكير وصفن خطرت لمحمود فكرة لا تخطر ببال إنسان ذكي، أو غبي، أو متوسط الذكاء، فذهب إلى بائع «الكسيب والحلاوة» هداد السمريوي، وهو رجل ذو كرش كبير للغاية، يبدأ، أعني الكرش، من منطقة الثديين، ويبلغ مداه الأقصى عند السرة، ثم يبدأ بالتراجع حتى يلتحم مع نقطة التقاء ساقيه القصيرتين البدينتين ببعضهما. ولكي يرفع محمود من حماس هداد السمريوي، ويجعله يهب لنجدته، تصنع الذل والمسكنة وقال له: - يا عمي هداد، أبي سافر إلى حلب منذ ثلاثة أيام، وقد لا يرجع قبل عشرة أيام، وأنا طردني المدير من المدرسة، ظلماً وعدواناً، لذا أريدك أن تذهب معي إلى المدرسة، وتكون ولي أمري، ولكن انتبه، إن من عادة الأساتذة، حينما يتحدثون إلى أولياء الأمور، أن يضعوا الحق على الطالب، وكل التهم العاطلة يلصقونها به. حينما دخل هداد السمريوي برفقة الطالب خالد وهج النار إلى غرفة الإدارة، أحس المدير والمعلمون المتواجدون في مكتبه برغبة قوية في الضحك لرؤيتهم هذه الصحبة العجيبة بين طالب ترتسم على وجهه علائم البلاهة ورجل مغزلي الشكل تفوح منه روائح الكسيب والحلاوة وزيت السيرج المقلي. وأما هداد السمريوي فقد شعر بالزهو حينما نهض هؤلاء الأفندية، ببدلاتهم الرسمية وربطات أعناقهم التي تتدلى إلى ما تحت أحزمة بنطلوناتهم، لاستقباله باحترام، وهو بدوره أصر على مصافحتهم واحداً واحداً مع أنهم حاولوا تجنب ذلك بسبب تلوث يديه بالكسيب والحلاوة والسيرج، وحينما انتهى من المصافحة أجرى حركات مفتعلة لا تخلو من الاستعرض القصد منها إيهامهم بأبوته لخالد، وقال للشخص الواقف وراء الطاولة وقد خمن أنه المدير: - هل أستطيع أن أعرف لماذا طردتم ولدنا خالد من المدرسة ياأستاذ أفندي؟ فاندفع الأستاذ عبد الغفور نحوه، وأمسك يده وهو يقول: - أعطني يدك هذه التي صافحتنا بها قبل قليل لأبوسها مثل - نعمة الله - وأضعها على رأسي، أجبني على سؤال واحد فقط، ولك علي أن ألصق فمي بعدها باللاصق فلا أستطيع الكلام حتى ولو حاولت ذلك: لماذا جعلت ابنك هذا يدخل إلى المدرسة في الأساس؟ وحينما وجدته غبياً حماراً يرسب في كل صف سنة أو سنتين.. لماذا لم تبادر إلى تبطيله من المدرسة وبحثت له عن مهنة يعيش منها؟ وقبل أن يتلفظ هداد السمريوي بأية كلمة.. كرر الأستاذ عبدالغفور عملية تقبيل يده، وقال له: كرمى لله والرسل والملائكة أنا داخل على عرضك.. خذه من هنا! |
|