تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ذكــريات.. لاتكـــاد تفارقنــي

ثقافة
الأثنين 6-8-2012
فاتن دعبول

لاتزال الأماكن تأخذنا إليها في حنين يكاد يفطر القلوب، تارة إلى أهل تجذروا فيها، وفي مرات أخرى لحبيب غادرناه ومابرحنا نتلفت على المسافات تطوى لتعيدنا إلى حيث القلب ينبض فيه، فلكل منا حنينه وذكرياته.

الأديب عمر الدقاق:‏‏

أحن إلى ملاعب الصبا سفح قلعة حلب‏‏

يرى الدقاق في الزمان والمكان أنهما دعامتا الحياة، وفي رحابهما يتم تكوين الإنسان ويتجلى وجوده الحقيقي، وإذا كان الزمان يمضي في الكون كالنهر الدائم لايتوقف، منذ الأزل وإلى الأبد، فالمكان يبقى راسخاً في نفس الإنسان، متجذراً في أعماق ذاكرته، ثابتاً وطيداً على الرغم من التغيرات التي قد تعتريه في شكله ومظهره.‏‏

والجنة هي المكان الأول أو الأرض الأولى التي كتب على الإنسان أن يخرج منها ويفارقها. حين راح بعد ذلك يتشوق إليها، ويحن إلى وصالها والعودة إلى ربوعها، ولكن هيهات..‏‏

وهكذا بات شأن كل إنسان ولاسيما شأن المبدع، سواء أكان شاعراً أو روائياً أو مصوراً أن يستوقف لحظات من الزمان الهارب في سالف أيامه، حيث يتراءى له المكان السحيق مفعماً بما تنطوي عليه نفسه من معاناة وآلام وبما حفلت به أرضه الأثيرة من هالات المحبة والذكريات الغابرة.‏‏

وماشعر الوقوف على الأطلال الذي امتاز به شعراؤنا العرب وتوجوا به قصائدهم سوى تعبير رائع وتصوير شجي لما يعتري نفوسهم من تمسك بالجذور وتعلق بالأرض وحنين إلى مسقط الرأس وملاعب الصبا وهكذا حن شعراؤنا إلى الصحراء النقية وبطاح نجد وشميم عرار البادية، وهكذا قال شاعرنا أبو تمام من جملة الذين قالوا:‏‏

كما منزل في الأرض يألفه الفتى‏‏

وحنينه أبداً لأول منزل‏‏

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى‏‏

ما الحب إلا للحبيب الأول‏‏

واليوم في غمار امتداد العمر تتوالى الأعوام علي وتتعاقب الأيام، ولكن المكان الذي ترعرعت في رحابه ودرجت فوق أرضه وملاعب صباي في سفح قلعة حلب اليوم، وفي كل يوم تعاودني الذكريات ولاتكاد تفارقني‏‏

هكذا كان شأني كما صوره مولانا شيخ المتصوفين جلال الدين الرومي من خلال ذلك الناي الذي اقتطع من أمه الشجرة وأصبح جسده مجرحاً بالثقوب، إنه يبكي دائماً لفراق موطنه وينتحب أبداً بصوته الشجي الحزين حنيناً إلى العودة إلى أصله.‏‏

عبد الفتاح قلعه جي:‏‏

الإبداع والإحساس بالمكان‏‏

يكتنز الإنسان صور المكان في طفولته وشبابه وكهولته ليكون الوعاء بالنسبة للمبدع الذي تتحرك فيه شخصياته حيث تنشأ العلاقات فيما بينها،وفيه تنضج الأفكار وتتوالد الحياة، وسواء كان المكان واقعياً أو فانتازياً أو متصوراً من خلال الثقافةالجغرافية فإنه يعتبر الركن الأكثر أهمية بالنسبة لعملية الإبداع. كثيرة هي الروايات اليوم التي تحتفي بالمكان، أما في المسرحية فلا بد من توصيف المكان للوصول إلى سينوغرافيا متكاملة للعرض المسرحي.وكي يكون الحديث أكثر حميمية سأنقل جزءاً من تجربتي في التأليف المسرحي وعلاقتها بالمكان.‏‏

* الحي الشعبي الكلاسة في حلب الذي ولدت فيه، والذي كان ذات عصر أكبر حاضر في العالم الإسلامي، عرف بالحاضر السليماني قبل أن يدمره هولاكو. هنالك العمائر الأيوبية الأثرية، جامع أبي الرجاء، جامع حسان وشيخ الكتاب فيه وتنور الكلس الجاثم أمام الجامع، و كنا نحن التلاميذ الصغار وكنانيرنا على أكتافنا نتحلق حول التنور أثناء الفرصة، نثرثر مع نسوة الحي اللائي حملن قدور الطعام والشوندر والذرة ووضعنها على الحجارة الملتهبة التي تتحول بفعل النيران إلى كلس حي. ويحلو لي أحيانا أن أجلس إلى جانب امرأة تغلي الماء في برميل للغسيل وضعته فوق الأتون لتغسل بعض الثياب وهي تحكي لي عما تعانيه من شظف العيش، وعن زوجها المغموسة لقمته بالعرق والدم.‏‏

الموت وذلك العالم المجهول وراءه، انهيار الجسد الإنساني وتحلله وعودته ثانية إلى عنصر التراب، ثم انبعاثه من جديد. مشاهد القيامة في القرآن الكريم. كل ذلك يمتزج بصور تنور الكلس الملتهب،.وفي محاولة للوصول إلى معرفة هذا الغيب وهذا اللغز المحيّر، وكي أصل إلى طمأنينة النفس المرهقة وسكينتها قمت بجمع المادة التصويرية عن القيامة وأحداثها، وطالعت النظريات العلمية المتعلقة بنشوء الكون وانهيار المادة فكانت المرجعية والأساس لملحمتي الشعرية القيامة، التي جاءت مزيجا من الشعر والمسرح والملحمة، ولم يغب الواقع عن لحمة هذا العمل، بل كانت فرصة لي كي أصور مآل أولئك الذين أرهقوا الإنسان بالطغيان وسلبوه رغيفه وأمنه وحريته.‏‏

الطريق من الكلاسة إلى مدرسة العرفان الإبتدائية في الأسواق القديمة، وأنا أقطعه يوميا عبر مقبرة الكليماتي وخندق السور الموازي وباب قنسرين الشامخ والحارات القديمة بأزقتها المتلاوية وعمائرها الأثرية علمني كيف يقفز التاريخ من الأبراج المطلة وشقوق الأسوار إلى دم القصيدة والمسرحية. فكانت مسرحيتي «عرس حلبي وحكايات من سفر برلك»، ومسرحيتي» الملوك يصبون القهوة « وقد جاءت نموذجا للوحة من الفسيفساء المسرحية التي ترتصف فيها بلورات المكان والتاريخ والواقع معا لتشكل بكل خلفياتها مشاهد مؤلمة للسلام الراكع مع أعداء الإنسان والسلام.‏‏

أما في مسرحيتي صعود العاشقفقد كان الأمر مختلفا في التعامل مع المكان وقصة فريد الدين العطار « حكاية الشيخ صنعان «، ثمة غوص في أعماق الروح عبر تحولاتها في صعودها نحو عالم الكمال والمحبوب المتعالي. كان لابد أن أعيش الحالة وأعتمد المكان الدائري حيث المعشوق في مركز الدائرة، إنها نموذج فريد للمسرح الصوفي الزاخر بالدراما الجوانية.‏‏

إن أهم مايحتاجهالكاتب المبدع هو الإحساس بالمكان شأن الراقص حين يحس بالموسيقى فينعكس ذلك على حركته وتشكيلاته وتكويناته الجسدية.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية