تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أبي ..أيقونة في القلب

مجتمع
الأثنين 6-8-2012
كمالا جلال خيربك

منذ مدة قريبة بدأت مطالبات الأصدقاء لي بأن أحاول النسيان و تخطي الأمر تثير استغرابي , إذ كيف لي أن أتخطى رحيل أبي !!؟ كيف قد أتخطّى رحيل صديقي و حليفي الدائم ؟؟

و الذي يثير دهشتي أكثر هي اللحظة التي أدرك بها أن عاماً كاملاً قد مضى على رحيلك , ولكن وأقسم بالله مازلت أشعر بأنك قد رحلت لتوّك , فلا المصاب هان ,ولا الصبر عرف طريقاً إلى قلبي .‏

كيف لي أن أنسى و كل مافي حياتي يذكرني بك !؟ وكثيرٌ مني يذكرني بك‏

فحين أنظر في المرآة على غفلة مني أرى تقطيبة حاجبيك و حدة نظرتك تطلان من وجهي و عينيّ ..كيف لي أن أنسى و أنا أسمع صدى صوتك يمرّ عبر أصوات أخوتي ..كيف لي أن أنسى و كلما نظرت إلى وجه أختي ,نظرت لي بعينيك .؟‏

و الحق أقول لك يا أبي ..أكره كثيراً أن أزور مكان نومك الأخير ,إذ يشعرني حقاً بأنك لم تعد بيننا ,يشعرني بأنني في حضرة الموت اكثر من شعوري بأني في حضرتك ..و كم أكره خيبة أملي بكل مرة تحمست للسفر إلى القرداحة لأزورك لأن الاشتياق قد نال من روحي , فأصل لأرى عدة أحجار و حفنة تراب يطالعنني بقسوة وكأن صمتهنّ يصرخ بي : لن تري وجه أبيكِ ..وأبدأ بالتكهن بأي جهة الآن تقف أنت و ترقبني أبكي بحرقة فاحاول أن أداري الدمع كي لا أحزنك (إن كنت لا تزال تحمل مشاعرنا الدنيوية) ..لهذا أكره أن أزورك هناك ..و لكن كل مافي بيتنا يشعرني أنك حيّ ولاتزال بيننا و تعنى بي و ترعاني كما اعتدت , فأغراضك على طاولتك الصغيرة لاتزال كما تركتها و تحرص أمي أن تبقيها كما لمستها يداك آخر مرة , وخزانتك لا تزال مرتبة كما تركتها و ثيابك تعبق بعطرك و رائحة التبغ ,هذا المزيج الذي لايمكن أن أتنشقه دون أن أشعر بيدك تمسح وجهي ..‏

عندما كنتَ في الماضي كنتُ لا أزال أشعر أني طفلة ,طفلتك المدللة ,ولكنني الآن كبرتُ و صرتُ حقاً ابنة خمس و عشرين عاماً ,وشعرتُ بهموم الأرض تتزاحم على قلبي ,ولقد صار للزمن وطأته عليّ ,ولم تعد الحياة تغريني بالمشاغبة كما كانت سابقاً ,لأني صرتُ أعلم بأن حليفي الأقوى قد غاب ..ولن يعود ..ولم أكن أعلم بأنك أنت من كنتَ تضمن لي الطفولة الدائمة ..‏

لمدة طويلة أحسستُ بأن السماء قد خذلتني بأنْ أخذتك,وكنتُ قد أقفلتُ قلبي دونها منذ أن أقفلتْ أبوابها دون دعائي المحموم لكَ بالشفاء ..أقفلتُ قلبي لمدة عام كامل و لكنها الآن عادت لتكون ملجأي الوحيد كلما استبدّ بي الحنين إليك .‏

لن أنسى و لن أتخطاه ذلك اليوم القاسي حينما أعلن جهاز المراقبة توقُف أنبل قلب يمكن أن يوجد في هذا الزمن ,وأنذرني بأني قد فقدت أبي و صديقي و ملجأي و حصني ..يومها واجهتُ الحياة للمرة الأولى لوحدي ,و عرفتُ الخوف للمرة الأولى ,يومها شعرتُ بأني كبرت حقاً و لم يعد عمري عشر سنوات .. خلال هذا العام مرّ الشتاء قاسياً جداً ,وبللني المطر للمرة الأولى و أجبرتني الريح على الإنحناء للمرة الأولى ,لأن هذا الشتاء و للمرة الأولى لايكون جناحك موجوداً ليظللني و يدرأ عني البرد و الحزن و الخوف .‏

أعتقد الآن يا أبي أني صرتُ جاهزة ,لا لأنسى ,ولكن لأمضي قدماً ..أعدك بأن أحاول, وأعلم بأن هذه هي رغبتك .‏

سأبقى دوماً أحملك أيقونة في قلبي لتباركني ما حييتُ , وسأظل أسمع وقع خطواتك الهادئة في البيت ,وسيخطر لي دوماً أن أترك لك مفتاح البيت عند عتبة بابنا ,علّك تفكر يوماً أن تزورنا .‏

وكل ليلة حين أضع رأسي على الوسادة سأعود طفلة لها من السنوات عشر ,وأمسك بيدي الهشة يدك المعرورقة القوية لأستمد منها القوة و نمضي معاً ,كل ليلة سأزور معك كل الأماكن الأثيرة إلى قلبينا التي اعتدت أن تصحبني إليها ,سنزور دمشق القديمة و الجامع الأموي كعادتنا في رمضان و ستحملني -و أنا متعلّقة بكل قوتي برقبتك- لتريني جريان نهر بردى في الربيع ..و ستشتري لي الطعام من ذلك المطعم القديم و تجلس صائماً بكل صبر ترقبني بسعادة وأنا أتناوله ..‏

سأظل أنتظر هطول المطر ,علّ قطراته القادمة من السماء تحمل لي انعكاس عينيك الحبيبتين ..‏

وأعدك يا أبي ..أعدك بأنك لن تصبح ذكرى ,لأن الذكرى هي صورة في البال لمن رحلوا , وأنت لم و لن ترحل ..‏

أعدك يا أبي , لن ينتصر النسيان يوماً على الذاكرة .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية