تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


جلال خير بك ...عام على الرحيل

مجتمع
الأثنين 6-8-2012
د. أليسار جلال خيربك

الزميل الراحل من الرعيل الأول الذي عمل في جريدة الثورة وترأس معظم أقسامها المحليات- الثقافي والاقتصادي . وكتب جلال خير بك في الشأن المحلي بعين الرقيب الجريء ، كما مارس جميع فنون العمل الصحفي.

كالريبورتاج - التحقيق- اللقاءات الميدانية-النقد الأدبي، وعمل أميناً للتحرير للشؤون المحلية والاقتصادية وهو من الزملاء المؤسسين لاتحاد الصحفيين عام 1974 وكان عضواً لمجلس اتحاد عام للصحفيين، وعمل في عدد من البرامج الإذاعية جلال خير بك الهادىء الرزين والذي يحمل في ثناياه قلباً طيباً يترك لدينا نحن زملاء المهنة ذكرى طيبة.‏‏

ونحن مع أولاده نستمطر الرحمة للزميل جلال ولكل الزملاء الذين رحلوا.‏‏

سنة مرت وما زال القلم يأبى أن يبقى بين أصابعي كي أكتب عنك يا أبي.. سنة مرت وما زلت ذاهلة من قدرتك على الصمت, ذاك الصمت الذي فهمته بعد غيابك. كثيراً ما كنت أستغرب بعض تصرفاتك وتسامحك غير المبرر من وجهة نظري, ودائماً كان جوابك على فيض كلماتي بضع كلمات لا تشفي غليلي ولا تردّ على ما كنت اعترض عليه.. كم كنتَ غريباً وغامضاً وقتها, وكم صرتَ واضحاً بعد رحيلك وغيابك!‏‏

هل حقاً ألم الفراق والرحيل والموت يجب ان يكون ضريبة إدراك بعض ما يخفى علينا في هذه الدنيا؟ أم انك كنت تصمت كي تعطيني عبرة وتعلمني الدرس؟‏‏

عندما علمت أنك مريض قررتُ أن أجيدَ وداعك, وعندما عرفتُ أن موقتة الزمن بالنسبة لك قد بدأتْ عدّها التنازلي السريع قررتُ أن أُجيدَ وداعكَ, وقررتُ أن أقاتل كي تبقى معنا, كما قررتُ أن أسألكَ عن كل شيء كان غامضاً فيك بالنسبة لي: لماذا تسامحتَ مع الجميع حتى ولو ظلموكَ؟ لماذا كنتَ تصمت عندما كان عليك أن تدافع عن نفسك؟ لماذا أحببتَ الكثيرين ممن ظلموك؟!‏‏

أردتُ أن أجيدَ وداعكَ فقررتُ أن أحفظ كل انحناءة في وجهك, يديك, وقدميك, حاولت أن أحفظ كل تجعيدة في جبينك العريض, وقررتُ أت اتكلم معك بكل ما قلناه سابقاً, وكل ما لم نقله, أن أسألك عن كل ما يهمني وما لا يهمني, وعن أي شيء قد يخطر في بالي بعد رحيلك فأندم أني لم أسألك عنه, مثل اصل عائلتنا وأسرتنا فقد كنتَ بارعاً في التاريخ, أو مثلاً بعض القصص الأساسية في القرداحة, مثل التصدّي للاحتلال العثماني والفرنسي.. كنتُ أكتبُ في كل لحظة آخر تواريخ لنا وآخر ذكريات لنا معاً في دنيانا هذه, فحاضرنا هو ذكرياتنا عندما نصل إلى المستقبل, لهذا فقد كنتُ أدرك تماماً أني بعد رحيلك سأجلس حزينة أتذكر كيف كتبتُ تاريخنا في آخر أشهر لك بيننا, وكيف كنتُ بارعة في وداعك.‏‏

قررتُ ان أحفظ طريقة تناولك لطعامك, وصوت ذلك المفصل في معصم يدك اليسرى والذي كان يصدر صوتاً ناعماً عندما ترفع يدك لتضع اللقمة في فمك, وأيضاً قررتُ أن أحتفظ بصوتك في ذهني باقياً (مع أنني الآن لم أعدْ أجيدُ استذكار ذاك الصوت الحبيب دون الرجوع إلى أحد مقاطع الفيديو المسجلة لك), فكيف لا أفعل ذلك وأنا أحاول ان أجيدَ الوداع؟؟‏‏

كان الحال في أشهر الوداع تلك مزيجاً من محاربة القدر مع فقدان الأمل بالانتصار عليه, لذلك فقد كان كل يوم يمرّ علينا معاً هو انتصاري الأكبر, فكنتُ أعدّ الأيام في سري..‏‏

الآن وبعد مرور عام على رحيلك توضحتْ لي كل الأمور: فالدنيا كما كنتَ تقول عنها "لايبقى لنا فيها سوى السمعة الحسنة والذكر الطيب", ولا تستحق أن نقف عند سفاسفها..‏‏

الآن وبعد مرور عام على رحيلك أدركتُ اني لم أجيد وداعكَ ولم أكن بارعة فيه أبداً, لأني أجد أن كل ما اختزنتُهُ في ذاكرتي خلال أيام الوداع تلك غير كافٍ, وأن كل ما حكيناه لبعضنا غير كافٍ..‏‏

كيف تكفيني لحظات وداع مدتها عدة أشهر لرجل ربّاني حتى تجاوزتُ منتصف العقد الثالث من العمر؟؟‏‏

كيف تكفيني أحاديث مدتها بعض من تلك الأشهر مع رجل أسمعني صوته ثلاثة عقود ونيّف ليوصلني إلى ما انا عليه الآن؟؟‏‏

أبي الحبيب وقد صار جرح غيابك عني لوعة اشتياق تقتلني: لم أجيد وداعكَ عندما غادرتني, لذلك أرجوكَ أن تجيدَ استقبالي عندما سألحق بك...‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية